الحوثية... وتجريف التعايش والمواطنة

السياسية - Wednesday 30 May 2018 الساعة 10:41 pm
سهام الصالح، نيوزيمن، خاص:

فقدت صنعاء ميزة كانت تتميز بها عن كثير من محافظات اليمن والمتمثلة في التعايش القائم على المواطنة الكاملة بين سكانها المنتمين لجميع الجغرافيا اليمنية (شمالاً وجنوباً؛ شرقاً وغرباً) باعتبار ذلك جزءاً من هويتها كعاصمة سياسية لليمن.

وقد ضاعفت أحداث ديسمبر 2017م ومقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح على يد جماعة الحوثي من ذلك الفقد، واكتملت عملية عزل الجماعة على المستوى الوطني والدولي؛ كونها فقدت الحامل السياسي وأظهرت بشاعتها ووحشيتها وعدم قدرتها على التعايش مع من يختلف معها حتى لو كانت هي ذاتها في أمس الحاجة إليه؛ وانعكست تلك الصورة القاتمة على صنعاء والمناطق التابعة لسلطة الجماعة بوضوح، إذ صبغتها نتائج تلك الأحداث بلون واحد فظهرت عاصمة البلاد شاحبة لا مكان فيها للتعايش والشراكة الوطنية وذلك باضطرار الكثير من قيادات وقواعد المؤتمر الشعبي للنزوح واللحاق ببقية القوى السياسية والمدنية الأخرى؛ أو التماهي مع الأمر الواقع فيما يشبه الذوبان الذي قضى - عملياً - على ميزة التنوع والتعايش.

منزوعو المواطنة:
من الناحية الشكلية لا يزال سكان صنعاء ينتمون لجميع المحافظات اليمنية كأمر واقع؛ فنادراً تجد إصلاحياً معروفاً أو مؤتمرياً أو ناصرياً أو سلفياً أو أي مختلف آخر لا يزال يعيش فيها أو في المحافظات الخاضعة لسلطة الحوثي؛ لكنه مجرد فرد منزوع الحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية؛ يكتنفه الخوف وترقب المجهول في ظل غياب أي معايير للمواطنة وسيادة القانون. لكن من حيث المضمون والمحتوى فلا مكان لأي مختلف إلا لو استطاع العيش في حالة اختفاء اختياري وهي مهمة مستحيلة الاستمرار. وهذا تسبب في نزوح جميع الشخصيات البارزة أو المؤثرة حتى على مستوى القرى والحارات وانتقالهم إلى المحافظات المحررة أو إلى خارج اليمن هرباً من البطش والتنكيل ومصادرة الممتلكات والمؤسسات التي يملكونها أو يعملون فيها بما في ذلك المنظمات والجمعيات الخيرية ووسائل الإعلام.
من تبقى من المحسوبين على القوى السياسية والمدنية والقبلية غير التابعين للحوثي يتهددهم القتل أو الاعتقال والتغييب القسري في أي وقت ودونما سبب سوى الاشتباه؛ فاختلافهم فكرياً أو مذهبياً أو سياسياً يمثل تهديداً وجودياً كافياً لإلحاق أقسى أنواع الإيذاء والضرر بهم.

ثأر شعبي عام:
الحقيقة المفزعة التي يدركها الحوثيون اليوم أن حالة من الغليان والثأر غير المسبوق تنتظرهم عند أقرب فرصة مواتية لانقضاض غالبية المجتمعات التي حكموها بشكل مباشر منذ العام 2004م وحتى اليوم.

لم تبق الجماعة لها صديقاً ولا حليفاً إلا وألحقت به الضرر المادي أو المعنوي أو كلاهما معاً، وهذا جعلهم أمام تحدٍ خطير نظراً لضخامة واتساع الخصومة وتعدد الخصوم بشكل يستحيل معه البقاء وتصعب عليهم مواجهته بعد فقدهم للسلطة.

نتحدث هنا عن الثأر المجتمعي من المواطنين العاديين ضد "الحوثيين" كجماعة وفكرة وسلوك وكعرقية "هاشمية" للأسف الشديد. فالمعطيات جميعها تؤكد بأن الجماعة (ككيان وكشخصيات قيادية) يواجهون حالة سخط من غالبية المجتمع بمختلف توجهاته وتبايناته نتيجة جرائم وانتهاكات وتجاوزات فظيعة مارستها قيادات وشخصيات حوثية بحق جيرانهم وزملائهم والمحيطين بهم حتى في إطار القرية والحي؛ فقد انتهجت العقليات المدبرة في الجماعة سياسة التوريط المانعة للتراجع والتخلي والتوبة من خلال إسناد المهام والمسؤوليات الأمنية والمدنية إلى الهاشميين والموالين لهم في نفس الحارات والقرى والمديريات التي ينتمون لها وبالتالي يتحملون مسؤولية كل الممارسات التي تحدث منهم أو ممن يتبعونهم فيتحول ذلك إلى ثأر كامن لما بعد السيطرة المطلقة.
وكان ذلك من أخطر وأسوأ الممارسات التي اقترفتها الجماعة في حق نفسها وحق المجتمع على المدى المستقبلي؛ كونها تسببت في فتح جراحات عميقة على مستوى المجتمعات الصغيرة بشكل يصعب تجاوزه أو تكفيره مستقبلاً حتى في ظل تطبيق برامج العدالة الانتقالية وجبر الضرر.

لعنة النسب والجغرافيا:
من الممارسات الماسة بالنسيج الاجتماعي بروز التمييز والعنصرية على أساس السلالة والنسب بشكل غير مسبوق منذ ستة عقود على الأقل، فقد تسببت الحركة الحوثية في فرز الهاشميين لأنفسهم كعدو للمجتمع بأغلبيته الساحقة؛ حيث قدمت الحركة نفسها باعتبارها الجناح المسلح للهاشمية وأن كل ما قامت وتقوم به من حرائق منذ 14 عاماً لاستعادة الحق الإلهي هو لتحقيق ذلك الهدف المحوري وبالتالي عمدت إلى وضع الهاشميين في واجهة كل سوء تقوم به، فتم استبعاد من ليسوا هاشميين من مواقعهم ووظائفهم العسكرية والمدنية واستبدالهم بهاشميين من الوزارات ومؤسسات الدولة المختلفة وحتى مشرفي الحارات والقرى. الطفرة المالية والوجاهة الاجتماعية الكبيرة والمتسارعة التي نتجت عن تلك السياسات دفعت بكثير من الهاشميين إلى الالتحاق بقطعان المتفيدين حتى إن بعضهم استعادوا ألقابهم التي كانوا قد تخلوا عنها أو استبدلوها عقب ثورة 1962م ليتحول كثير منهم خلال فترة قياسية إلى مشرفين وقيادات أمنية وعسكرية مارست البطش والعنف والنهب والتسيد والاستئثار بالثروة والسلطة بشكل فج؛ الأكثر سوءاً في هذا هم الأسر والشخصيات التي كانت قد ذابت في مجتمعاتها كما هو حال الأسر الهاشمية في محافظات (تعز وإب والحديدة ومأرب والجوف وحتى العاصمة صنعاء مثلاً).

انتباهة متأخرة:
مؤخراً أدركت قلة من المحسوبين على الجناح السياسي المدني في الجماعة والعقلاء في "الأسر الهاشمية" أنهم يتوغلون في وحل العنصرية والجرائم والانتهاكات التي يمارسها إخوانهم بحق المخالفين ونتائج الممارسات الكارثية في الوظيفة العامة والمعيشة والخدمات العامة والمال العام والخاص والتجريف الممنهج لكل قيم المواطنة وأنهم بذلك باتوا هدفاً للثأر والنقمة الشعبية وأنهم أحوج إلى التعايش والتنوع من أي طرف آخر، لكنهم غير قادرين على الإفصاح عن قناعاتهم تلك. فالوضع الاجتماعي غير طبيعي وغير قابل للبقاء والاستمرار وأن ما حدث ويحدث من تجريف لقيم التعايش والسلام على يد الجماعة هي مصيبة وكارثة مستقبلية قد تطالهم جميعاً؛ لكن تلك الشخصيات لم تستطع الإفصاح عن ميلها - الشخصي - لفكرة حلحلة القبضة الأمنية والسماح بمساحة من التعايش والقبول بالآخر كونها قلة ولا تمتلك القرار أو السلطة التي تخولها بلورة قناعاتها تلك إلى واقع.

فعمليات الثأر المتوقعة مفزعة جداً وستكون كلفتها باهظة على الجماعة وخاصة في الفترات التي تعقب وقف الحرب سواءً بالقوة المسلحة أو باتفاق سياسي. فالفترة البرزخية الفاصلة بين توقف الصراع العسكري – في أي بلد – وبين استتباب الوضع لأجهزة الدولة الجديدة تكون رخوة لضعف من حيث السيطرة الأمنية للقوة التي تسند إليها عمليات حفظ الأمن والاستقرار. وتلك الرخاوة تستمر مابين شهرين إلى نصف عام على الأقل وخلالها يستطيع طالبو الثأر الوصول إلى غرمائهم والإفلات من العقاب بسهولة.

ومن التحديات الكبيرة التي تواجه هذه الفئة – على قلتها – كثرة أنصار الموت والعنصرية وتجار الحرب داخل الجماعة، فأي صوت حقيقي للسلم والتعايش من داخل أو خارج الجماعة يعتبرونه تهديداً مباشراً لمصالحهم، وبالتالي فهو "عميل للعدوان خائن لدماء الشهداء؛ ساعٍ إلى شق الصف"، حسب تعبيرهم.

ولو أن الجماعة قيمت وضع قياداتها وأفرادها والمتعاونين معها في المحافظات المحررة من قبضتهم بشكل كلي أو جزئي مثل (عدن وأبين وتعز والحديدة) وكيف أصبحوا منبوذين وطرائد للمجتمعات المحلية قبل الدولة ومؤسساتها لاستيقظت الجماعة من غطرستها؛ فردة الفعل الغاضبة والمنتقمة من الحوثيين طالت كل من له انتماء جغرافي أو قبلي للمحافظات التي تمثل عمق ومنبع الحوثية وارتبطت في الوعي الجمعي بأنها منبع الكارثة الحوثية مثل (صعدة وعمران وحجة وذمار) حتى بات الفرز الثأري المقابل مبنياً على الهندام واللهجة.