فوضى وفشل إداري.. إخوان تعز في مهمة تدمير نموذج الدولة
السياسية - منذ ساعتان و 30 دقيقة
لم تكن تعز يومًا مدينة عادية في مسار الحرب اليمنية، بل كانت ولا تزال العنوان الأبرز للفكرة الجمهورية، والرمز الذي حمل مشعل المقاومة في مواجهة مشروع الحوثي منذ لحظة الانقلاب الأولى. في شوارعها المليئة بالحياة رغم الحصار، تشكّلت ملامح أول مقاومة مدنية وعسكرية ضد ميليشيا الحوثي، ومنها انطلقت الشرارة التي منحت كثيرين الأمل بأن مشروع الدولة لم يمت بعد.
غير أن السنوات الطويلة من الحصار والانقسام والخذلان المتبادل بين مراكز القرار في الشرعية، أرهقت المدينة ودفعتها نحو مرحلة معقدة من الفوضى الداخلية، تآكلت فيها مؤسساتها الأمنية والإدارية، وغابت عنها ملامح الدولة التي كانت تعز أول من نادى بعودتها.
لقد أصبحت تعز اليوم مثالًا صارخًا لما يمكن أن يحدث حين تُختطف الشرعية من داخلها، وحين تتحوّل قوى "التحرير" إلى أدوات نفوذ حزبي ومناطقي تتنازع السلطة أكثر مما تبنيها. فبدل أن تكون المدينة منطلقًا لإعادة صياغة نموذج الحكم في المناطق المحررة، غرقت في شبكة من المصالح المتضاربة، حيث تتداخل الولاءات بين السياسي والعسكري، وبين العقائدي والاقتصادي، في مشهد يعكس مأساة غياب الدولة لا غياب العدو.
واليوم، تقف تعز على مفترق طرق مصيري: فإما أن تقدم نفسها كـ نموذج للشرعية القادرة على إدارة المدن المحررة، بإرادة مسؤولة تقيم العدل وتفرض النظام، أو تظل رهينة سلطة إخوانية تمارس الهيمنة باسم "التحرير" وتعيد إنتاج الفساد والانقسام داخل المدينة.
وما لم تُدرك قيادة الشرعية أن معركة تعز لم تعد عسكرية فقط، بل هي معركة إدارة ومؤسسات وأخلاق سياسية، فإن المدينة ستتحول من رمز للمقاومة إلى شاهد على فشل المشروع الجمهوري في بناء الدولة التي ناضل من أجلها أبناؤها.
تحالف السلطة... شرعية بلا إدارة
دخلت تعز مرحلة جديدة من الفوضى بعد سيطرة تحالف شكلي بين الرئيس رشاد العليمي وحزب الإصلاح على مفاصل السلطة المحلية والعسكرية. هذا التحالف، الذي يفترض أنه يوحّد الجهود، أنتج في الواقع ازدواجية مميتة في القرار، ومراكز نفوذ متصارعة تتحكم بالمدينة وفق مصالحها الخاصة.
تعدد الأجنحة العسكرية والأمنية، وغياب سلطة مركزية حازمة، جعلا من تعز مدينة محاصرة من الداخل أكثر من الخارج. فالخلافات بين الأجهزة الأمنية وقيادات الألوية لم تعد تدور حول إدارة الجبهات، بل حول العقارات، والمناصب، وموارد الضرائب، والمساعدات الإنسانية.
وتعرّض النسيج المقاوم في تعز لتآكل مستمر خلال السنوات الأخيرة، نتيجة تغوّل النفوذ الحزبي داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية. فبدلاً من أن تكون المقاومة نواة مشروع الدولة، تحولت إلى أدوات تُستخدم في تصفية الحسابات وتثبيت الولاءات السياسية.
تحالفات الولاء الضيقة، وعمليات الإقصاء الممنهج، والتمييز في الدعم والإمداد، كلها عوامل ساهمت في تآكل التماسك الداخلي. وقد ظهر ذلك بوضوح بعد اغتيال الشهيد عدنان الحمادي، الذي كان يمثل تيارًا وطنيًا مستقلًا يسعى لتوازن القوة داخل تعز. رحيله ترك فراغًا لم يُملأ حتى اليوم، وفتح الباب أمام احتكار الإصلاح للمشهد العسكري والأمني تحت غطاء الشرعية.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي نبيل الصوفي أن ما يحدث في تعز ليس مجرد فوضى أمنية، بل أزمة إدارة وقيادة. يقول: "عانت تعز من سوء نقاش قيادي لوضعها، يشترك فيه رئيس مجلس القيادة والإصلاح، ولا يصح أن نبرئ أنفسنا كمقاومة وطنية، بحكم أن قائدنا هو عضو مجلس القيادة الوحيد الذي يعيش أصلاً داخل تعز هو وجنوده ومشاريعه التنموية".
هذه الإشارة المباشرة إلى قائد المقاومة الوطنية تؤكد أن الصوفي لا يتحدث من موقع المزايدة، بل من داخل التجربة الوطنية نفسها، محذرًا من أن استمرار تجاهل هذه الإشكالات يعني انهيار ما تبقى من المشروع الجمهوري في المدينة.
اختبار حقيقي
تبقى تعز الاختبار الأصعب للشرعية اليمنية، فهي البوابة الشمالية التي يُفترض أن تقدم النموذج البديل لما بعد الحوثي، المدينة التي يمكن أن تثبت قدرة الدولة على إدارة مناطق محررة بعد سنوات من الانقلاب والحصار. غير أن ما يجري اليوم في تعز لا يعكس نموذجًا ناجحًا للدولة، بل نسخة مصغرة من الفوضى التي عانى منها اليمن طيلة عقد من الزمن، حيث تتداخل الولاءات الحزبية والشخصية مع السلطات المدنية والعسكرية، وتغيب الرقابة والمحاسبة، ويصبح المواطن ضحية الخلل الإداري قبل أي تهديد خارجي.
السؤال المحوري الذي يطرحه المراقبون اليوم: كيف يمكن للشرعية أن تقنع سكان إب وذمار وصنعاء بأنها تملك مشروع دولة متماسك، إذا كانت عاجزة عن فرض نموذج مستقر في أربع مديريات فقط تشكل قلب مدينة تعز؟ هذا السؤال لم يعد سياسيًا فحسب، بل أخلاقيًا وتنمويًا أيضًا، لأن المدينة التي حلم أهلها بالتحرير والاستقرار باتت اليوم رمزًا للخذلان الإداري، والفشل في بناء مؤسسات فعالة، والانقسام الحزبي المستشري.
الاختبار الذي تخوضه تعز ليس معركة عسكرية فقط، بل معركة سياسية وأخلاقية وإنسانية. فإما أن تستعيد المدينة توازنها ودورها كعاصمة للمشروع الجمهوري، أو تُترك لتتحول إلى رمز للخذلان الوطني، حيث تتداخل سلطة الدولة مع النفوذ الحزبي لتنتج فسادًا وتهميشًا مستمرين. الرهان على تعز لم يسقط بعد، كما يؤكده الكاتب والمحلل السياسي الصوفي لكن استعادتها تتطلب قرارًا سياسيًا جريئًا يعيد ضبط المؤسسات، وينهي فوضى الإخوان، ويضع الشرعية في مكانها الحقيقي كمؤسسة دولة، لا كواجهة لتحالفات حزبية مؤقتة أو مصالح ضيقة.
ويضيف الصوفي: "تعز هي الاختبار الحقيقي للشرعية اليمنية، والبوابة الشمالية التي يُفترض أن تقدم النموذج البديل لما بعد الحوثي. لكن الشرعية حتى اليوم تعيش داخل تعز أزمة تعريف نفسها، بين سلطة تتحدث باسم الدولة، وسلطة تحكم باسم الحزب".
ويؤكد الصوفي أن أي فشل في إعادة نموذج إداري متماسك في تعز لن يقتصر أثره على المدينة نفسها، بل سيمتد إلى المناطق المحررة الأخرى، ويضعف قدرة الحكومة الشرعية على تقديم بديل حقيقي لمشروع الحوثي، ويهدد أي جهود لتوحيد القوى العسكرية والمدنية تحت سقف الدولة.
مرآة الانهيار الأخلاقي
كشفت جريمة مقتل الشهيدة افتهان المشهري في قلب مدينة تعز عن الوجه الأكثر قسوة للفوضى التي تضرب مؤسسات المدينة، وأزاحت الستار عن مأزق أخلاقي ومؤسسي عميق ظل يتشكل بصمت خلال السنوات الماضية. فالمأساة لم تكن مجرد حادثة جنائية عابرة، بل كانت جرس إنذار صاخبًا لانهيار منظومة العدالة والمساءلة، ولتآكل القيم التي حملت تعز في الأصل لواء المقاومة ضد الانقلاب الحوثي.
في الساعات الأولى لانتشار الخبر، هرع الجميع — من قيادات سياسية إلى شخصيات حزبية وناشطين — لإدانة الجريمة والتبرؤ منها، لكن ما بدا وكأنه هبة غضب عفوية لم يكن إلا انعكاسًا لعجز جماعي عن تحمّل المسؤولية. فالمدينة التي كانت رمزًا للتحدي والكرامة باتت اليوم تعيش على وقع الإدانة بدل الفعل، وعلى ردود الأفعال بدل الإصلاح.
ويقول الكاتب نبيل الصوفي إن "دم افتهان المشهري كشف قبح الإهمال والقصور الذي يعيشه الجميع، لأن الجريمة لم تأتِ من فراغ، بل من واقع مهترئ لا يُحاسَب فيه أحد ولا يُحترم فيه القانون"، مضيفًا أن "ردود الأفعال المليئة بالإدانة والتبرؤ لم تكن سوى وجه آخر من وجوه الفشل، لأن الإدانة أصبحت بديلاً عن المسؤولية، والصمت شكلًا من أشكال التواطؤ".
لقد مثّلت هذه الجريمة نقطة انعطاف خطيرة في وعي أبناء تعز، إذ أظهرت أن المدينة التي قاومت مليشيا الانقلاب لسنوات باتت اليوم أسيرة انفلات داخلي لا يقل خطرًا عن الحصار الحوثي. كما سلطت الضوء على عجز الأجهزة الأمنية والقضائية عن أداء مهامها الأساسية، في ظل تغوّل نفوذ القوى الحزبية والمسلحة التي باتت تفرض وصايتها على الشارع، وتتعامل مع مؤسسات الدولة كغنيمة حرب.
إن جريمة افتهان المشهري لم تكن حدثًا معزولًا، بل تجسيدًا لتراكمات طويلة من الفوضى السياسية والاختلال الإداري، حيث اختلطت سلطة السلاح بمصالح التجار والنفوذ الحزبي، وغابت الحدود بين من يطبّق القانون ومن يخرقه. ومع كل جريمة جديدة، تتراجع ثقة المواطن في العدالة، ويتحوّل الغضب الشعبي إلى إحباط عميق يهدد النسيج الاجتماعي داخل المدينة.
هذه الجريمة، وما تبعها من حملات إعلامية وصراعات حزبية متبادلة، تؤكد أن تعز لم تعد بحاجة إلى مزيد من بيانات الشجب ولا إلى بطولات افتراضية على وسائل التواصل، بل إلى إصلاح مؤسسي شامل يعيد تعريف معنى "التحرير" ويقيم التوازن بين العمل العسكري والإداري والسياسي. فـ"تحرير المدينة" لا يكتمل برفع شعارات النصر، بل ببناء مؤسسات قادرة على حماية المواطن وصون كرامته.
الحاجة إلى مشروع إنقاذ
لا تحتاج تعز اليوم إلى خطابات الشجب ولا إلى دورات اتهامات متبادلة، بل إلى إصلاح بنيوي شامل في مؤسساتها الأمنية والإدارية، يُعيد تعريف معنى "التحرير" من جديد. لقد أصبحت تعز في نظر اليمنيين مرآة لمأزق الشرعية نفسها: ضعف الإدارة، وتغوّل الحزبية، وغياب القرار السيادي.
إنقاذ تعز ليس مهمة محلية فحسب، بل ضرورة وطنية، لأن بقاءها على هذا النحو يهدد جوهر المشروع الجمهوري ذاته، ويفتح المجال أمام الحوثي لتقديم نفسه كقوة "منظمة" في مقابل شرعية عاجزة عن إدارة مدينة محررة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي نبيل الصوفي إن "تعز قاومتنا جميعاً، منذ جملة هادي سيئة الصيت عن تعز التي لا تمشي إلا بالدعس". تلك العبارة تختصر مسار مدينةٍ واجهت كل أشكال القهر السياسي والعسكري، لا لأنها أرادت التمرد، بل لأنها ظلت وفية لفكرة الجمهورية في زمن تلاعبت به التحالفات والمصالح.
تعز قاومت صمت هادي حين تخلى عن مسؤوليته، وواجهت تحالف صالح والحوثي حين اتحدا ضدها، وتقاوم اليوم فوضى جديدة نشأت من تحالف الرئيس رشاد العليمي وحزب الإصلاح، الذي جمع القوى الأمنية والعسكرية تحت إدارة واحدة شكلية، لكنها عمليًا أفرزت مزيدًا من الانقسام والفوضى.
بحسب الصوفي، فإن ما تعيشه تعز اليوم هو نتيجة مباشرة لـ"سوء النقاش القيادي حول وضعها"، إذ تحولت فكرة توحيد القوى تحت مظلة واحدة إلى أداة لاحتكار النفوذ بيد تيار حزبي واحد، ما أفقد المدينة توازنها الداخلي. فبعد إقصاء كتائب أبي العباس واغتيال الشهيد عدنان الحمادي، تمكّن تحالف العليمي – الإصلاح من الإمساك بمفاصل القرار الأمني والعسكري، لكن دون أن ينجح في فرض النظام أو إرساء نموذج إداري يليق بمكانة المدينة.
الصوفي يرى أن "الشرعية في تعز ليست مجرد سلطة فاشلة في إدارة الأمن، بل أصبحت عاجزة عن إدارة النقاش ذاته"، وهو ما جعلها رهينة نزاعات داخلية بين شركائها المفترضين بدل أن تكون نموذجًا يوحد المناطق المحررة.
نموذجان متناقضان
في المقابل، كان يمكن أن تقدم تعز نموذجًا ناجحًا في الإدارة المحلية، كما حدث في الساحل الغربي، حيث تُمارس القيادة هناك رقابة صارمة ومحاسبة فعلية على القيادات، ويُعاقَب أي مسؤول أو ضابط يتجاوز سلطاته أو يتورط في الفساد. الفارق الجوهري بين الحالتين هو أن تعز، تحت الهيمنة الحزبية، تفتقد القرار المستقل والمنهج الإداري الواضح.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي، نبيل الصوفي في مقارنة لافتة بين ما يجري في تعز وما يحدث في المخا، حيث يقيم نائب رئيس مجلس القيادة العميد طارق صالح: "إن نائب الرئيس في المخا "كان يتابع تحركات ضباطه يومياً على قدر الممكن، وسمع بلاغًا أن ضابطًا طلب غرفًا مجانية من فندق، فأرسله للسجن مباشرة". ويضيف: "في أرض عامة للدولة أُعدت لمشروع حديقة للمخا، حاول سماسرة بيعها لضباط، فأمر القائد بمصادرتها فورًا وإعادتها للدولة".
هذه الأمثلة، بحسب الصوفي، تكشف عن نمط قيادة صارم أدرك أن "الخطأ حين يُسكت عنه مرة ومرتين لا يمكن معالجته بعد ذلك". في المقابل، بقيت تعز أسيرة السكوت عن الأخطاء، والتبريرات المستمرة، والصراعات التي لا تُحسم، حتى تآكلت هيبة السلطة، وانهارت ثقة المواطن في المؤسسات.
ما يجري في تعز ليس شأنًا محليًا فحسب، بل اختبار وطني شامل لمفهوم الشرعية والمشروع الجمهوري. تعز التي قاومت كل أشكال القهر، تواجه اليوم خصمًا أخطر: الفوضى باسم الشرعية. وبينما يقدم الساحل الغربي نموذجًا منضبطًا في الإدارة والمحاسبة، تظل تعز عالقة في دوامة الاستحواذ والانقسام، بانتظار إرادة سياسية تُعيد لها مكانتها كمحرك للفكرة الجمهورية لا كضحية لتحالفاتها.
لم تكن تعز يومًا مدينة عادية في مسار الحرب اليمنية، بل كانت ولا تزال العنوان الأبرز للفكرة الجمهورية، والرمز الذي حمل مشعل المقاومة في مواجهة مشروع الحوثي منذ لحظة الانقلاب الأولى. في شوارعها المليئة بالحياة رغم الحصار، تشكّلت ملامح أول مقاومة مدنية وعسكرية ضد ميليشيا الحوثي، ومنها انطلقت الشرارة التي منحت كثيرين الأمل بأن مشروع الدولة لم يمت بعد.
غير أن السنوات الطويلة من الحصار والانقسام والخذلان المتبادل بين مراكز القرار في الشرعية، أرهقت المدينة ودفعتها نحو مرحلة معقدة من الفوضى الداخلية، تآكلت فيها مؤسساتها الأمنية والإدارية، وغابت عنها ملامح الدولة التي كانت تعز أول من نادى بعودتها.
لقد أصبحت تعز اليوم مثالًا صارخًا لما يمكن أن يحدث حين تُختطف الشرعية من داخلها، وحين تتحوّل قوى "التحرير" إلى أدوات نفوذ حزبي ومناطقي تتنازع السلطة أكثر مما تبنيها. فبدل أن تكون المدينة منطلقًا لإعادة صياغة نموذج الحكم في المناطق المحررة، غرقت في شبكة من المصالح المتضاربة، حيث تتداخل الولاءات بين السياسي والعسكري، وبين العقائدي والاقتصادي، في مشهد يعكس مأساة غياب الدولة لا غياب العدو.
واليوم، تقف تعز على مفترق طرق مصيري: فإما أن تقدم نفسها كـ نموذج للشرعية القادرة على إدارة المدن المحررة، بإرادة مسؤولة تقيم العدل وتفرض النظام، أو تظل رهينة سلطة إخوانية تمارس الهيمنة باسم "التحرير" وتعيد إنتاج الفساد والانقسام داخل المدينة.
وما لم تُدرك قيادة الشرعية أن معركة تعز لم تعد عسكرية فقط، بل هي معركة إدارة ومؤسسات وأخلاق سياسية، فإن المدينة ستتحول من رمز للمقاومة إلى شاهد على فشل المشروع الجمهوري في بناء الدولة التي ناضل من أجلها أبناؤها.
تحالف السلطة... شرعية بلا إدارة
دخلت تعز مرحلة جديدة من الفوضى بعد سيطرة تحالف شكلي بين الرئيس رشاد العليمي وحزب الإصلاح على مفاصل السلطة المحلية والعسكرية. هذا التحالف، الذي يفترض أنه يوحّد الجهود، أنتج في الواقع ازدواجية مميتة في القرار، ومراكز نفوذ متصارعة تتحكم بالمدينة وفق مصالحها الخاصة.
تعدد الأجنحة العسكرية والأمنية، وغياب سلطة مركزية حازمة، جعلا من تعز مدينة محاصرة من الداخل أكثر من الخارج. فالخلافات بين الأجهزة الأمنية وقيادات الألوية لم تعد تدور حول إدارة الجبهات، بل حول العقارات، والمناصب، وموارد الضرائب، والمساعدات الإنسانية.
وتعرّض النسيج المقاوم في تعز لتآكل مستمر خلال السنوات الأخيرة، نتيجة تغوّل النفوذ الحزبي داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية. فبدلاً من أن تكون المقاومة نواة مشروع الدولة، تحولت إلى أدوات تُستخدم في تصفية الحسابات وتثبيت الولاءات السياسية.
تحالفات الولاء الضيقة، وعمليات الإقصاء الممنهج، والتمييز في الدعم والإمداد، كلها عوامل ساهمت في تآكل التماسك الداخلي. وقد ظهر ذلك بوضوح بعد اغتيال الشهيد عدنان الحمادي، الذي كان يمثل تيارًا وطنيًا مستقلًا يسعى لتوازن القوة داخل تعز. رحيله ترك فراغًا لم يُملأ حتى اليوم، وفتح الباب أمام احتكار الإصلاح للمشهد العسكري والأمني تحت غطاء الشرعية.
ويرى الكاتب والمحلل السياسي نبيل الصوفي أن ما يحدث في تعز ليس مجرد فوضى أمنية، بل أزمة إدارة وقيادة. يقول: "عانت تعز من سوء نقاش قيادي لوضعها، يشترك فيه رئيس مجلس القيادة والإصلاح، ولا يصح أن نبرئ أنفسنا كمقاومة وطنية، بحكم أن قائدنا هو عضو مجلس القيادة الوحيد الذي يعيش أصلاً داخل تعز هو وجنوده ومشاريعه التنموية".
هذه الإشارة المباشرة إلى قائد المقاومة الوطنية تؤكد أن الصوفي لا يتحدث من موقع المزايدة، بل من داخل التجربة الوطنية نفسها، محذرًا من أن استمرار تجاهل هذه الإشكالات يعني انهيار ما تبقى من المشروع الجمهوري في المدينة.
اختبار حقيقي
تبقى تعز الاختبار الأصعب للشرعية اليمنية، فهي البوابة الشمالية التي يُفترض أن تقدم النموذج البديل لما بعد الحوثي، المدينة التي يمكن أن تثبت قدرة الدولة على إدارة مناطق محررة بعد سنوات من الانقلاب والحصار. غير أن ما يجري اليوم في تعز لا يعكس نموذجًا ناجحًا للدولة، بل نسخة مصغرة من الفوضى التي عانى منها اليمن طيلة عقد من الزمن، حيث تتداخل الولاءات الحزبية والشخصية مع السلطات المدنية والعسكرية، وتغيب الرقابة والمحاسبة، ويصبح المواطن ضحية الخلل الإداري قبل أي تهديد خارجي.
السؤال المحوري الذي يطرحه المراقبون اليوم: كيف يمكن للشرعية أن تقنع سكان إب وذمار وصنعاء بأنها تملك مشروع دولة متماسك، إذا كانت عاجزة عن فرض نموذج مستقر في أربع مديريات فقط تشكل قلب مدينة تعز؟ هذا السؤال لم يعد سياسيًا فحسب، بل أخلاقيًا وتنمويًا أيضًا، لأن المدينة التي حلم أهلها بالتحرير والاستقرار باتت اليوم رمزًا للخذلان الإداري، والفشل في بناء مؤسسات فعالة، والانقسام الحزبي المستشري.
الاختبار الذي تخوضه تعز ليس معركة عسكرية فقط، بل معركة سياسية وأخلاقية وإنسانية. فإما أن تستعيد المدينة توازنها ودورها كعاصمة للمشروع الجمهوري، أو تُترك لتتحول إلى رمز للخذلان الوطني، حيث تتداخل سلطة الدولة مع النفوذ الحزبي لتنتج فسادًا وتهميشًا مستمرين. الرهان على تعز لم يسقط بعد، كما يؤكده الكاتب والمحلل السياسي الصوفي لكن استعادتها تتطلب قرارًا سياسيًا جريئًا يعيد ضبط المؤسسات، وينهي فوضى الإخوان، ويضع الشرعية في مكانها الحقيقي كمؤسسة دولة، لا كواجهة لتحالفات حزبية مؤقتة أو مصالح ضيقة.
ويضيف الصوفي: "تعز هي الاختبار الحقيقي للشرعية اليمنية، والبوابة الشمالية التي يُفترض أن تقدم النموذج البديل لما بعد الحوثي. لكن الشرعية حتى اليوم تعيش داخل تعز أزمة تعريف نفسها، بين سلطة تتحدث باسم الدولة، وسلطة تحكم باسم الحزب".
ويؤكد الصوفي أن أي فشل في إعادة نموذج إداري متماسك في تعز لن يقتصر أثره على المدينة نفسها، بل سيمتد إلى المناطق المحررة الأخرى، ويضعف قدرة الحكومة الشرعية على تقديم بديل حقيقي لمشروع الحوثي، ويهدد أي جهود لتوحيد القوى العسكرية والمدنية تحت سقف الدولة.
مرآة الانهيار الأخلاقي
كشفت جريمة مقتل الشهيدة افتهان المشهري في قلب مدينة تعز عن الوجه الأكثر قسوة للفوضى التي تضرب مؤسسات المدينة، وأزاحت الستار عن مأزق أخلاقي ومؤسسي عميق ظل يتشكل بصمت خلال السنوات الماضية. فالمأساة لم تكن مجرد حادثة جنائية عابرة، بل كانت جرس إنذار صاخبًا لانهيار منظومة العدالة والمساءلة، ولتآكل القيم التي حملت تعز في الأصل لواء المقاومة ضد الانقلاب الحوثي.
في الساعات الأولى لانتشار الخبر، هرع الجميع — من قيادات سياسية إلى شخصيات حزبية وناشطين — لإدانة الجريمة والتبرؤ منها، لكن ما بدا وكأنه هبة غضب عفوية لم يكن إلا انعكاسًا لعجز جماعي عن تحمّل المسؤولية. فالمدينة التي كانت رمزًا للتحدي والكرامة باتت اليوم تعيش على وقع الإدانة بدل الفعل، وعلى ردود الأفعال بدل الإصلاح.
ويقول الكاتب نبيل الصوفي إن "دم افتهان المشهري كشف قبح الإهمال والقصور الذي يعيشه الجميع، لأن الجريمة لم تأتِ من فراغ، بل من واقع مهترئ لا يُحاسَب فيه أحد ولا يُحترم فيه القانون"، مضيفًا أن "ردود الأفعال المليئة بالإدانة والتبرؤ لم تكن سوى وجه آخر من وجوه الفشل، لأن الإدانة أصبحت بديلاً عن المسؤولية، والصمت شكلًا من أشكال التواطؤ".
لقد مثّلت هذه الجريمة نقطة انعطاف خطيرة في وعي أبناء تعز، إذ أظهرت أن المدينة التي قاومت مليشيا الانقلاب لسنوات باتت اليوم أسيرة انفلات داخلي لا يقل خطرًا عن الحصار الحوثي. كما سلطت الضوء على عجز الأجهزة الأمنية والقضائية عن أداء مهامها الأساسية، في ظل تغوّل نفوذ القوى الحزبية والمسلحة التي باتت تفرض وصايتها على الشارع، وتتعامل مع مؤسسات الدولة كغنيمة حرب.
إن جريمة افتهان المشهري لم تكن حدثًا معزولًا، بل تجسيدًا لتراكمات طويلة من الفوضى السياسية والاختلال الإداري، حيث اختلطت سلطة السلاح بمصالح التجار والنفوذ الحزبي، وغابت الحدود بين من يطبّق القانون ومن يخرقه. ومع كل جريمة جديدة، تتراجع ثقة المواطن في العدالة، ويتحوّل الغضب الشعبي إلى إحباط عميق يهدد النسيج الاجتماعي داخل المدينة.
هذه الجريمة، وما تبعها من حملات إعلامية وصراعات حزبية متبادلة، تؤكد أن تعز لم تعد بحاجة إلى مزيد من بيانات الشجب ولا إلى بطولات افتراضية على وسائل التواصل، بل إلى إصلاح مؤسسي شامل يعيد تعريف معنى "التحرير" ويقيم التوازن بين العمل العسكري والإداري والسياسي. فـ"تحرير المدينة" لا يكتمل برفع شعارات النصر، بل ببناء مؤسسات قادرة على حماية المواطن وصون كرامته.
الحاجة إلى مشروع إنقاذ
لا تحتاج تعز اليوم إلى خطابات الشجب ولا إلى دورات اتهامات متبادلة، بل إلى إصلاح بنيوي شامل في مؤسساتها الأمنية والإدارية، يُعيد تعريف معنى "التحرير" من جديد. لقد أصبحت تعز في نظر اليمنيين مرآة لمأزق الشرعية نفسها: ضعف الإدارة، وتغوّل الحزبية، وغياب القرار السيادي.
إنقاذ تعز ليس مهمة محلية فحسب، بل ضرورة وطنية، لأن بقاءها على هذا النحو يهدد جوهر المشروع الجمهوري ذاته، ويفتح المجال أمام الحوثي لتقديم نفسه كقوة "منظمة" في مقابل شرعية عاجزة عن إدارة مدينة محررة.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي نبيل الصوفي إن "تعز قاومتنا جميعاً، منذ جملة هادي سيئة الصيت عن تعز التي لا تمشي إلا بالدعس". تلك العبارة تختصر مسار مدينةٍ واجهت كل أشكال القهر السياسي والعسكري، لا لأنها أرادت التمرد، بل لأنها ظلت وفية لفكرة الجمهورية في زمن تلاعبت به التحالفات والمصالح.
تعز قاومت صمت هادي حين تخلى عن مسؤوليته، وواجهت تحالف صالح والحوثي حين اتحدا ضدها، وتقاوم اليوم فوضى جديدة نشأت من تحالف الرئيس رشاد العليمي وحزب الإصلاح، الذي جمع القوى الأمنية والعسكرية تحت إدارة واحدة شكلية، لكنها عمليًا أفرزت مزيدًا من الانقسام والفوضى.
بحسب الصوفي، فإن ما تعيشه تعز اليوم هو نتيجة مباشرة لـ"سوء النقاش القيادي حول وضعها"، إذ تحولت فكرة توحيد القوى تحت مظلة واحدة إلى أداة لاحتكار النفوذ بيد تيار حزبي واحد، ما أفقد المدينة توازنها الداخلي. فبعد إقصاء كتائب أبي العباس واغتيال الشهيد عدنان الحمادي، تمكّن تحالف العليمي – الإصلاح من الإمساك بمفاصل القرار الأمني والعسكري، لكن دون أن ينجح في فرض النظام أو إرساء نموذج إداري يليق بمكانة المدينة.
الصوفي يرى أن "الشرعية في تعز ليست مجرد سلطة فاشلة في إدارة الأمن، بل أصبحت عاجزة عن إدارة النقاش ذاته"، وهو ما جعلها رهينة نزاعات داخلية بين شركائها المفترضين بدل أن تكون نموذجًا يوحد المناطق المحررة.
نموذجان متناقضان
في المقابل، كان يمكن أن تقدم تعز نموذجًا ناجحًا في الإدارة المحلية، كما حدث في الساحل الغربي، حيث تُمارس القيادة هناك رقابة صارمة ومحاسبة فعلية على القيادات، ويُعاقَب أي مسؤول أو ضابط يتجاوز سلطاته أو يتورط في الفساد. الفارق الجوهري بين الحالتين هو أن تعز، تحت الهيمنة الحزبية، تفتقد القرار المستقل والمنهج الإداري الواضح.
ويقول الكاتب والمحلل السياسي، نبيل الصوفي في مقارنة لافتة بين ما يجري في تعز وما يحدث في المخا، حيث يقيم نائب رئيس مجلس القيادة العميد طارق صالح: "إن نائب الرئيس في المخا "كان يتابع تحركات ضباطه يومياً على قدر الممكن، وسمع بلاغًا أن ضابطًا طلب غرفًا مجانية من فندق، فأرسله للسجن مباشرة". ويضيف: "في أرض عامة للدولة أُعدت لمشروع حديقة للمخا، حاول سماسرة بيعها لضباط، فأمر القائد بمصادرتها فورًا وإعادتها للدولة".
هذه الأمثلة، بحسب الصوفي، تكشف عن نمط قيادة صارم أدرك أن "الخطأ حين يُسكت عنه مرة ومرتين لا يمكن معالجته بعد ذلك". في المقابل، بقيت تعز أسيرة السكوت عن الأخطاء، والتبريرات المستمرة، والصراعات التي لا تُحسم، حتى تآكلت هيبة السلطة، وانهارت ثقة المواطن في المؤسسات.
ما يجري في تعز ليس شأنًا محليًا فحسب، بل اختبار وطني شامل لمفهوم الشرعية والمشروع الجمهوري. تعز التي قاومت كل أشكال القهر، تواجه اليوم خصمًا أخطر: الفوضى باسم الشرعية. وبينما يقدم الساحل الغربي نموذجًا منضبطًا في الإدارة والمحاسبة، تظل تعز عالقة في دوامة الاستحواذ والانقسام، بانتظار إرادة سياسية تُعيد لها مكانتها كمحرك للفكرة الجمهورية لا كضحية لتحالفاتها.