آح كم أوجعتني هذه الكلمات من إحدى عجائز الاحكوم وهي تذرف الدمع دون توقف ونهدتها تكاد تفطر قلبي.. إلتقيتها وأنا في عيادة لضرب الإبر والمجارحة والتي يرتادها غالبية أبناء الطبقة الكادحة وأنا منهم، فقد أصابتني حمى لمدة يومين. قررت بعدها أن أذهب للعلاج عند أحد أبناء بني يوسف، والذي يملك عيادة للإسعافات الأولية وضرب الابر المجموعة من الكالسيوم والفلوتارين وفيتامين سي.. هذه الإبرة هي المنقذ لكثير من محدودي الدخل، كون لا قدرة على الذهاب لمستشفيات خاصة ولا عامة في بلد يتدهور الوضع الصحي يوميا وبتهور وهرولة عجيبين نحو الأسوأ.
عندها وجدت تلك السمراء، الكاتب زماننا على وجهها تعاريج البؤس والحرمان، كانت تجلس على كرسي بلاستيكي عتيق تذرف دمعها غزيرة وتنظر إلى السماء بعتاب وتمن معا، قلت في نفسي علها لا تجد ما تدفعه ثمنا للعلاج المحتمل، فقصدتها وسألتها بلهجتها ما لك يامه ليش تبكي؟؟
لم تتردد في الرد ولعلها عرفت من فطنة الحكيم بالزمن ما دار في خاطري، فقالت يا بني أني ما ابكيش من المرض ولا من قيمته، معي معي يا بني أني أبكي من وجعي لوجع بقرتي!!
كان فضولي يسبق دهشتي من هذا الجواب غير المتوقع ابدا، كيف لامرأة في العقد الأخير من العمر وفي عدن وتتألم لألم بقرتها، ثم أين بقرتها هذه وما سبب تألمها؟؟
فسألتها.. طيب هذا مش طبيب بيطري يامه وكمان كيف تربي بقرة بعدن؟؟
قالت وهي تزيد من حرقة تنهدها يا بني "البقرة حقي مش هنا البقرة حقي بالقرية وكلما تذكرتها طار من بين عيوني نار، كنا سادعين وادعين نحمد الله ونشكره على كل حال ما درينا إلا وقرحوا الحرب ببلادنا ذوناك من جهة وذوناك من جهة واحنا بالوسط يعلم الله بحالنا ما عاد رجعنا إلا لفلفنا اطمارنا والجهال والهيجة منزل وما شلينا معانا شي من المواشي حقنا يالله نجينا بانفسنا وهم يداجفوا ولنا اسبوع هنا وبقرتي حما ظمأ لا آكل ولا شارب وامس رجعوا من أهل القرية لبيوتهم ويزهموا لابني ان بقرتي ماته ولد (يعني وهي تلد)
كيف يعني ماته ولد يا امه؟؟
يا بني كانه بشهره متم واحنا ما قدرناش ننزله الهيجة معانا لأنه الحرب كانه حامي مرة وولدت وحده وماته هي والعجل حقه والآن اذكره ونهجت كل دموعي على الوجع اللي وقع به وهي تولد وما فيش أحد جنبه ولا اكله ولا شربه"
يا أمه مله اذكري الله قد ماتوا بشر وانتي تبكي على بقرة شعوضك الله بداله؟؟
عندها التفتت الي بغضب، "سرحت ابتهم كلهم هم اللي دوروميه الحرب والا ما بلادنا ماحد يقدر يجلس به يوم الا اهله لا الحويثه هلهم ولا اصحاب الشرعية أما بقرتي قارشه عجماء لا حول له ولا قوه ومابكيش على قيمته ولا كانه ماته موت دين الله لكن يابني ماته تتعذب وجيع وماحد جنبه اذكر وجعه ووجعني صدري وقلبي عله يابني البقره ام ومانفعتنا الا هيه واحنا براس هيجه لا جليس ولا انيس ولا من يقل ربك الله والآن يابني نعم قاسدوا وكل واحد رجع بقعته وبقرتي وعذابه لاذمتهم ما معي الا الله اشتكي له" وعادت تبكي من جديد..
لطفك يارب كيف لكل هذه الإنسانية وهذا الشعور بالحب لحيوان زرع في قلب هذه الراعية الثكلى على بقرتها، بينما انتزعت الإنسانية والإحساس ممن يجعلون الحرب سببا للارتزاق دون النظر لمعاناة الناس واوجاعهم، بل إن انسانيتهم لم تتحرك لكثير من البشر يتألمون.. بينما نقاء المرأة العجوز جعلها تذرف الدمع على حيوان وتتوجع لوجعه.
قالت إن الحرب هم من طلبها وان بلادها لم تكن موقعا لا لحوثي ولا لفرد من جيش الشرعية كونها لا يستطيع أحد العيش فيها إلا ناسها. وقد صدقت فقد قالها من قبل الشهيد اللواء الركن عدنان الحمادي في أكثر من زيارة لتلك الجبهة.. فقال هذه جبهة دفاعيه لا نستطيع النزول فيها لأننا سنفتقد للامداد ولا يستطيع الحوثي التقدم إلينا لأنه سيكون انتحارا حقيقيا لهم. وهذا هو واقع الحال الذي اثبتته الأحداث الأخيرة وانتهت بأن يعود كل إلى موقعه وكأنك يابو زيد ما غزيت.
آح والف اااح للوجع الذي أصاب أولئك المساكين القاطنين بقعة الوجع من الوطن من التهمت سبعة أيام مدخراتهم التي بالكاد تطعمهم دون التسول والحرمان ثم تأتي نزوة مغامر لتزرع الألم في حناجرهم وتدمع مقلهم حزنا ووجعا.. من لتلك العجوز التي ابكتني وابكت كل من سمعها وتألم لوجعها، ومن لألف أم مثلها في قرى الاكبوش والكعاوش ومغيديف والقواعدة من عزلة الاحكوم الذين هاجر اهلها وتركوا ماشيتهم وارزاقهم ليعودوا وكل شيء قد ناله الخراب والموت.. ثم اي عمل عسكري ذاك الذي لم يستند لخطة عسكرية للانتصار وما بعد الانتصار حتى كانت كل تلك الجروح والأرواح التي ازهقت ليكون اتفاق الجثة مقابل الأرض.
لن أطيل فما بي من وجع جسدي وقلبي كفيل بأن يحطم ما تبقى من إنسانية تراودني حينا فحينا.