ميسون غزلان

ميسون غزلان

رحلة في الذاكرة.. تعز جنة الحب والمشاقر قبل ربيع الخراب

Monday 25 November 2019 الساعة 06:26 am

بين مملكتين عشت طفولتي وكنت الملكة، وكان قلبي يسابقني ذاك الصباح ولم يكن كأي صباح، استيقظنا جميعاً على صوت أبي يستعجلنا في أن نجهز للسفر والمغادرة، مغادرة البلد، يا إلهي.

ركبنا السيارة التي ستقلنا للمطار وغادرنا طول الطريق الى المطار وانا اسأل نفسي عندما نعود هل سيبقى البيت على حاله ولمن سنترك الجيران والأصدقاء والمدرسة؛ تزاحمت الأفكار في رأسي، حتى أصبح يؤلمني وقررت ان اترك الامر، حتى تنجلي الصورة واستوعب ما سيحدث في قادم الأيام.

وعندما غادرت بنا الطائرة ارض المطار وبدأت البيوت تصغر كلما ازددنا ارتفاعا حينها أدركت اننا نغادر دمشق فعلا وغدا صباحا سيكون لنا وطن جديد وبيت جديد ومدرسة مختلفة وأصدقاء جدد.

وقد شدني الحدث وجلست قرب النافذة ارصد كل شيء من اعلى وسافرت مخيلتي قبلي الى اليمن، حيث كنا مسافرين وألف سؤال ليس لهم إجابة، ولم انتبه الى ان جاءت المضيفة واعلمتنا ان نستعد للهبوط يعني وصلنا الى مقصدنا وبعد دقائق سنبدأ مغامرة مشوقة فيها من المجاهيل ما يستدعي الصمت والتمعن والتفكير بالخطوة الأولى.

كان هذا في الثمانينات يعني من أكثر من ثلاثين عاما كنت ما زالت طفلة وكانت مدينة صنعاء العاصمة اول مدينة استقبلتنا وكان الجو ماطرا.

وأذكر ان ثيابنا قد تبللت الى ان وصلنا الى الفندق الذي سنبيت فيه ليلتنا الأولى وسأنام خارج بيتنا وبغير غرفتي حيث لا أجد مخدتي الصغيرة التي افتقدتها فجأة وعرفت ان ليلتي ستكون طويلة وانا لا أستطيع ان أغمض عيني وانا أحدق في كل ما حولي من عالم جديد أدخلني القدر في احداثه على حين غرة.

المدينة الجميلة الغريبة والتي لا تشبه دمشق في شيء الا في حسن الضيافة وفي طيبة السكان وجمال الطبيعة وخصوصية المكان التي تأسرك من اول لحظة، وبعدها كان علينا ان نسافر من جديد الى مدينة أخرى حيث يجب ان تعيش العائلة في القرية الصغيرة الجميلة التي شكلت فيما بعد منعطفا كبيرا في حياتي.

وغادرت بنا الحافلة تاركين مدينة صنعاء باتجاه مدينة تعز ومن ثم مدينة التربة ومن ثم القرية حيث يكون بيتنا الجديد والمدرسة والأصدقاء والجيران ومحطة من العمر قادمة بدأت معالمها مع فجر ذلك اليوم.

ومع اننا بقينا هناك فقط حوالي سنة ونصف او سنتين تقريبا لكنها رحلة مثيرة حفرت في الذاكرة بكل تفاصيلها الدقيقة مشهدا ابديا استوطن القلب والروح.

واليوم وبعد مرور كل هذه السنين ما زلت اذكر من البداية ومن ذاك اليوم ومن على مشارف جبل صبر، جنة الحب والمشاقر وموطن العشق والقات والفرسك.

من صبر يبدأ العشق تاريخه الحافل بالبذل والتضحيات معلناً بزوغ فجر معطر ومرسلاً صفارة انطلاق مشوار الشوق والحنين تخالطه قطرات الغيم بخمرة عناقيد النجوم عند المساء.

انطلقنا ونحن مدهوشين منشدين للكم الهائل من الجمال والروعة في طبيعة المكان وسحره الذي يعطيك انطباعا كأنك تسافر في أروقة الجنة او الحدائق المعلقة حيث تسافر برفقة الغيم وبجوار الندى تصعد وتهبط تلتف وتسكن.

كل المدن التي مررنا بها جميعها مستلقية على سفوح الجبال متكئة عليه برأسها بكل تواضع وإجلال… فضلت أن تكون منخفضة عنها ليتلاءم البشر على العيش معها أكثر فتوفر المأوى والحضن الدافئ لكل قادم ومقيم فيها.

وما ان وصلنا الى هناك حتى انتفت عنا وحشة المكان، وانتابني شعور كأنني وجدت ضالتي في جملة من الأحاسيس لم اعرف لها مثيلا، حيث تمدك المدن برقة القلب ولين الأفئدة.

وفي لحظة تقف الأفكار في رأسك فتطرد النوم من عينيك بأسئلة تتزاحم، يا ترى هل كنت أسيرة في تعرجات الشوارع والازقة، أم كانت هي تسير في مجرى دمي؟

لقد اختلطت الحقيقة بالأوهام ومن دهشة المكان سبحت الرحمن، وأدركت أن الحجارة التي لا تتكلم تقول شعرا في اليمن وبفضول سياحي رأيت النجوم واستمتعت بضوئها الساحر.

لكنني ادركت بحس طفولي عابث انني لن أصل إليها مهما غامرت في الاعجاب، ففضلت ان أصبح الجارة الجديدة للقمر.

وصلنا الى القرية وكان شيخها الجليل مغادرا في مهمة اجتماعية خاصة بابنه العريس فاستقبلنا اهل بيته بحفاوة وفتحت لنا أبواب البيت الكبير على مصراعيه وفتحت معه أبواب المستقبل الجديد الذي تسارع فيما بعد وانتهى بنا في بيتنا الصغير ومدرستنا الصغيرة في القرية والاف الدنمات من الحقول الخضراء وبساتين الذرة والدخن وغابات الأرز والأشجار الحراجية المسكونة بمئات الأنواع من الطيور والحيوانات في لوحة من التنوع الحيوي بأشكاله يرسم لوحة انطبعت في ذاكرتي لطبيعة غناء بكر تقول الكثير عن مقبرة الاناضول وعن اليمن السعيد.

رايت في اليمن سماء زرقاء ما زلت اذكرها جيدا ولم اكن اعلم وبعد مرور كل هذه الأعوام ونحن الآن في عام الفين وتسعة عشر ان كل اللوحات الانطباعية الرائعة سيكسوها الدخان، وان الكم الهائل من السعادة سيغدو حزنا وهماً، وان الأبناء ساكني الجنة اصبحوا شهداء فيها وان اليمن والشام على موعد مع الموت القادم اليها من أعداء الحضارات.

ويشدني الحنين الى لحنين كنت انشدهما في الصباح هناك في طابور المدرسة بلادي بلادي بلاد اليمن احييك يا موطني مدى الزمن، وفي المساء وفي البيت اغني حماة الديار عليكم سلام ابت ان تذل النفوس الكرام.

ترى هل هي مصادفة القدر ان تكون الكلمات في النشيدين تحملان نفس الرسالة؟ وماذا عن وحدة المصير وعن التاريخ المشترك والأصول العربية العريقة؟ ماذا عن الحنين والانتماء لأرض واحدة كيف نكون تحت سماء واحدة ولا نلتقي؟

هي المنتزهات المعلقة وحدها تخبرنا بما حدث هنا واي ربيع هذا الذي يحول الجنان الى خراب واي قدر بائس لشامنا ويمننا، لأجل من نحب بالعشق نصلي.

هو عبق تركه المكان في قلبي ودروس في الحياة تعلمتها وبصمة لأصحاب لعبت معهم فملأت ضحكاتنا الاثير واخوة لي كسبتهم وكبرت وعشت بينهم، فيهم الحمد والرحمة والحكمة والعدل والولاء لله والوطن، فيهم نفح من حواري الجنة وهبة وحب وجلالة الخالق على ارض اليمن.

لا تحزنوا يا احبتي، هي سحابة صيف عابرة، فكما سوريا انتصرت سوف ينصر الله اليمن، فما عرفت بلقيس وزنوبيا الهزيمة يوما، وسنعلمهم دروسا في التضحيات والتفاني وقوة الانتماء والعزيمة وما يعنيه اليمن واليمنيون بمهد الحضارة وأول البشرية واخر البشرية، وستظل أرض اليمن أشبه بجنة أرضية مليئة بالغرائب والعجائب والخوارق.

هي في الميراث اليوناني القديم “العربية المباركة”، وهي في الميراث اللاتيني “العربية السعيدة”، وهي في الميراث العربي “أيمن الأرض”، وفيها “آية جنتان عن يمين وشمال”، كما يقول القرآن الكريم (سبأ، 15)، وسنمضي واثقين من الشمس في غدنا لأننا نحن والابدية سكان هذا البلد… واثق اننا سنعود يوما إلى هناك.

* نقلاً عن مجلة "أخبار السياحة" المصرية