زار الكاتب الملايو عبد الله بن عبد القادر الحديدة في رحلة حج إلى مكة في عام 1854، ويصف المدينة في روايته عن الرحلة، وذكر أن عادة مضغ القات كانت سائدة في المدينة في هذا الوقت، بخلاف بقية المناطق التهامية.
لم يسبق لأحد أن تعامل مع مدينة الحديدة باعتبارها امتداداً جغرافياً لصنعاء، بالمعنى الجيوسياسي (الجغرافيا السياسية)، وهو ما أدى إلى سلسلة من الأخطاء والقصور في محاولتنا لفهم الصراع المحتدم حول هذه المدينة.
ربما يخشى الباحثون إلصاق صفة التبعية بالمدينة التهامية، لكن دعنا نسأل: كيف اكتسبت مدينة الحديدة كل هذه الأهمية وأصبحت مركزاً للمحافظة التي تحمل اسمها برغم أنها أحدث المدن نشأةً على الساحل وفي السهل التهامي؟ الإجابة هي صنعاء.
تكتسب مدينة الحديدة أهميتها كونها أقرب نقطة إلى صنعاء على ساحل البحر الأحمر، ونشأت الحديدة لكي تكون منفذا بحرياً لصنعاء العاصمة وكذلك منطلقاً للجيوش نحوها.
تم ذكر اسم الحديدة لأول مرة في عام 1454 وهو - للمصادفة - نفس العام الذي تولى فيه السلطان الظافر، عامر بن طاهر، الحكم كأول ملك للدولة الطاهرية التي حكمت معظم أجزاء اليمن، والذي قتل على عتبات صنعاء أثناء محاولتة انتزاع المدينة من سلطة الأئمة الزيدية.
وكانت صنعاء خاضعة لنفوذ الإمام المؤيد، وهو ما دعى الملك الظافر إلى التحرك صوب صنعاء لاستعادتها وفي المعارك بين قوات الظافر والأمير الزيدي على صنعاء سقط الملك الظافر قتيلاً في الميدان عام 1466، إلى أن تمكن الملك عامر بن عبد الوهاب من السيطرة على صنعاء عام 1504، بعد أن وطدَّ أقدامه في الجهات الساحلية.
بعد ذلك أعلن طامح جديد من الأئمة هو الإمام شرف الدين نفسه إماماً جديداً وأخذ يدعو لنفسه في منطقة الجبال بحجة ويبحث عن الأعوان لحرب الطاهريين الذين اعتبرهم أعداء الله، وأخذ بمراسلة من سماهم "الغزاة الكرماء" وهم المماليك الشراكسة الذين كانوا يجوبون البحر الأحمر وسواحل اليمن لمجابهة قوة البرتغاليين التي أخذت تهدد بغزو السواحل اليمنية.
في عام 1538 سيطر العثمانيون على السواحل اليمنية وانطلقوا من سهول تهامة نحو صنعاء وسيطروا عليها عام 1547، بمساعدة من قبائل حراز بهدف تأمين تجارتهم في البحر الأحمر، حيث كانت مدينة مناخة محطة تجارية هامة عند منتصف الطريق بين صنعاء والحديدة، موقع إناخة الجمال والقوافل والذي أكسب المدينة اسمها.
وفي عام 1848 أصبحت الحديدة قاعدة للعثمانيين ومنطلقا لهم إلى صنعاء، وتحولت إلى مركز إداري هام. وفي 1923 تسلمها محمد الإدريسي من الإنجليز، ثم تمكن الإمام يحيى بن حميد الدين من السيطرة عليها في العام نفسه.
في عام 1961 جرى إنشاء ميناء الحديدة بالتعاون مع الإتحاد السوفييتي سابقا، وفي عام العام التالي 1962 تم افتتاح طريق صنعاء - الحديدة بعد أن استغرق انشاؤه أكثر من 3 أعوام من قبل شركة صينية إبان عهد الإمام أحمد.
يبلغ إجمالي طول هذا الطريق 231 كم. ابتداءً من نوفمبر عام 1958 بعثت وزارة المواصلات الصينية 519 شخصا على التوالي إلى اليمن لمسح واختيار الخط، ووضعت تصميم الطريق. بدأت الفرقة الصينية لخبراء الطرق البناء في فبراير 1959، وأنجزت هذا المشروع الضخم في يناير 1962. كان طريق صنعاء - الحديدة أول طريق عام بنته الصين الجديدة في منطقة غربي آسيا وشمال أفريقيا. لم يكن مشروعا سهلا، ولهذا بعث مكتب التعاون الاقتصادي بوزارة المواصلات الصينية أقوى فرقة خبراء لتنفيذه.
وعقب ثورة سبتمبر 1962 كانت الحديدة معبرا مهما لقوات بعثها الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر إلى صنعاء لنصرة الثورة، كما ساهم الطريق في فك حصار السبعين الذي فرضته قوات الإمامة على صنعاء عام 1967 وكان يسمى "طريق الثورة".
لا تشكل معارك الحديدة لحظة صراع آنية أو مؤقتة، بل هي تجلٍّ للصراع الشامل والأكبر، وتراكم لمئات السنين من الإرهاصات السياسية والاقتصادية والدينية، وتناول الحديدة بشكل منفصل عن طبيعة نشوءها يزيد من تراكم الأخطاء.
* من صفحة الكاتب على (الفيسبوك)