اقتصاد الحرب في مأرب: الحرب من الداخل.. مأرب بين السقوط والمقاومة

تقارير - Saturday 01 May 2021 الساعة 11:00 am
عدن، نيوزيمن، ماجد زايد:

عام ونصف قضيتها في مأرب، كانت فترة من العمر لا تنسى ولا تحدث، فترة من الزمن البطيئ والسريع والمتلاحق بالأحداث، خلالها تعرفت على ملامح الحياة وطبيعة السكان والقادمين الجدد إلى المدينة المتشكلة حديثًا.

عاصرت بالفعل تشكلًا جديدًا لمدينة ناشئة مع حدوث متغيرات ديموغرافية واضحة، وبالرغم من أنها تبدو في حالة توسع مستمر، إلّا أن نموها السكاني حدث تدريجيًا كنتيجة إيجابية عن فترة سلبية من المنظور العام.

محافظة مأرب مرت بدورات ديموغرافية متلاحقة ومتزايدة خلال توقيت قصير، وبينما تمكنت طفرتها الحديثة في العقارات والمباني من التصدي للتحديات التي أوجدها ارتفاع عدد السكان وتزايدهم المفاجئ، ظهرت عقبات جديدة تزامنت مع تحدياتها.

فعلى سبيل المثال، أثمر النمو العمراني المتسارع جدًا منذ سبعة أعوام في إيجاد حلول لبعض الصعوبات المرتبطة بالتزايد البشري والتدفق الشبابي على المدينة، لكنها أيضًا خلقت طفرة أدت إلى ظهور نمط متفاقم من الاحتكار والتربح والاستغلال، وهذا أفرز ارتفاعًا متلاحقًا في قيمة العيش المادية.

تكلفة السكن في مأرب تقارن بمدن خليجية من حيث تكلفتها المالية، وقيمة المواد الاستهلاكية مرتفعة جدًا، هذه المدينة مرت بحقبة تغيير جذري يعتبر الأكثر تسارعًا بين سابقاتها من المدن اليمنية، ومن ناحية متصلة تؤدي أربع قوى مترابطة دورًا كبيرًا في التأثير على الطريقة التي تتطور بها المدينة: الموارد النفطية، واستثمارات القيادات المسلحة، وأسعار العقارات المرتفعة، بالإضافة إلى قيادات الإصلاح القادمين من مناطق صنعاء وتوابعها للاستثمار في المدينة والاحتماء بها.

الحياة في مأرب ليست رداءً جديدًا من الانفتاح والتطوير، بقدر ما هي اكتظاظ بالغ جلب الانفتاح والتكيف والتطوير، شوارع المدينة بدأت بالرصف والتسوية والتوسع، آلة البنية التحتية تسير بشكل متسارع منذ البدايات، كأنها تسابق الزمن وتلاحق الأضواء والقناعات، لكتها أيضًا شكل آخر عن إرضاء الذات المقهورة أو الذات المنافسة على الحكم في المدينة خصوصًا مع خلافات التنظيم المدفونة مع مشايخ المدينة الأصليين، وهي أيضًا محاولة لإيجاد البديل الحضاري لحياة الحكام السابقين لصنعاء، ربما لإثبات نموذج ناجح عن الكفاءة والأحقية والبرجماتيا، وربما كبديل عن خيالات العودة لمدينة قديمة، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى ما زالت المدينة تعاني من الخوف الوجودي، والنار المدفونة بين فصيلين نديين لبعضهما، والقبضة الأمنية المشككة في كل شيء يسير في الشوارع..! 

هذا المقال سيسرد كثيرًا من الحقائق والتجارب والتحليلات والشواهد المختلفة، وبعناوين مختلفة عن أمور متقاربة ومنفصلة وقريبة من الحرب والواقع والمستقبل القادم.. 

الخوف الحائر

خلال الأشهر الأخيرة، يعيش الناس في مأرب بشتى انتماءاتهم وتكويناتهم على خيالات الخوف من القادم، الخوف من الحرب الحتمية على استقرارهم ونموهم، وتمامًا كما يقول "بيكساي": في كل منعطف تاريخي يلبس "الخوف" الإنساني لبوسًا جديدًا.. 

هذا ما تعكسه تفاعلات الناس في المدينة وخيالاتهم المضطربة وغير المستقرة، تفاعلاتهم التي تشكلت في غايتها ووجودها لردع فكرة "الخوف والخطر"، الخوف الذي يسكنهم حيال الحرب الحوثية عليهم، والخطر المتصاعد تجاه مدينتهم، وما تلك المظاهر المسلحة والمتزايدة في شوارعهم سوى صورة أخرى عن فكرة البحث عن حالة "الاطمئنان"، أي الاستمتاع بـ"فكرة الحياة المستقرة والنمو الجديد" دون التفكير في "خطر الحوثي المتفاقم حول المدينة"!

أدعيتهم في المساجد لا تكاد تتوقف، خطب الجمعة وتحشيداتهم خلالها، التحذير المهووس من الخلايا المندسة، الاتهامات الداخلية البينية، التشكيك الممنهج بكل ما يعيش بينهم، التهويل الكبير لفكرة الحق والانتصار، كل هذه الأمور انعكاس واضح لحالة الخوف العام من خطر قادم.

لذا ظلت مقاومة "الخوف" هاجسًا مؤرقًا، كلما أرادوا مطاردته، عاد إليهم على هيئة جبهة أخرى وتحشيد أكبر، الإنسان كثيراً ما يصنع الخوف ثم يحاربه، هكذا يقول "بيكساي" فكلما اعتقدوا بأن سلاحًا جديدًا يحميهم اكتشفوا أن هناك سلاحًا أشرس منه في يد خصومهم، اكتشفوا أن الحرب عليهم مفتوحة من كل الجهات وعلى كل الجبهات، والموت في كل ركن، لهذا ظل الخوف قائما، والبحث عن مقاومة الخوف قائمة، وصناعة "الخوف" قائمة أيضًا.

مأرب.. الناس والزحام والحياة

ما زلت محتفطًا بكلماتي عن المدينة وتفاجئي منها منذ البداية، الكلمات التي لم أتوقع عبرها أبدًا وأنا في طريقي إليها أن أصير أحد العاشقين لها ولشوارعها وزحامها وأسواقها وناسها المتمسكين بعروبة الصحراء وشهامة الأقحاح وكبرياء البدو المحاربين، في مأرب بالفعل امتزجت الأحلام والأمنيات المكسورة بأمل التضحيات والعبور على صراط الأخوة والذود عنها مهما بلغت التكاليف، شباب المدينة الأصليون أو القادمون الجدد يشبهون الوطن، أو يبحثون عنه في معظم التفاصيل، ينتظرونه كل يوم ويصنعون منه وطنًا آخر للمستجيرين من الخوف والعنف والبهتان.

في مأرب أصبحت الحياة بملامحها الشعبية والبسيطة جميلة كقلوب الصغار بينما يسيرون في حدائق المدينة وأسواقها المسائية، الحياة هناك مكتملة الملامح لكنها تنتظر السلام بعد أن رسمته في تفاصيلها الكثيرة، لكنها تخشى الحرب وتتجنب التفكير في عاقبتها، في مأرب الجود والكرم، الشهامة والإباء، الناس الطيبين، الصمود والرفاق، الحب حينما يدوس على المدافع، بعد وقوع القلب في حب الكلمات الغريبة عن المدن البعيدة، كلمات الإباء والكبرياء وإرغام النفس على الحياة لأجل الآخرين.

مأرب كمدينة أصبح لها ملامح من الأشكال الحديثة، لكنها بالرغم من هذا تعاني من استغلال التجار وجشعهم وربما احتكارهم، المطعم في مأرب يطلب أسعارًا مضاعفة، صاحب البقالة، تاجر المواد الغذائية، سائق النقل، بائع البطاط، صاحب الشبكة، صالون الحلاقة، محلات الملابس والأحذية والكماليات والمفروشات والأثاث والمكتبات والفنادق والاستراحات والإيجارات وكل شيء، المقاوتة الأوغاد أيضًا، الجميع يطلبون أسعارًا مضاعفة، مضاعفة بكثير، كأنهم ينهبون الناس بشكل صامت، لا أحد يدري أو يتحدث عنهم، لا أحد يجرؤ ربما.

التجار في مأرب يحددون مقدار أرباحهم ومكاسبهم وفقًا لأهوائهم ومزاجهم في اللحظة الآنية، هذا ما يحدث فعلًا عندما يكون الجانب التجاري والاستهلاكي بلا رقابة، سترتفع الأسعار وسيزداد الجشع وسيكثر التذمر في ذات الجغرافيا المتروكة بلا حملات تفتيش للأسعار. العملة أيضًا تنهار بفعل هؤلاء الانتهازيين، بفعل تجاهل السلطة لهم، هذه جبهة أكثر من الحرب في أهميتها وفداحتها، لقد تركوا الجشع يستحوذ على السوق فيها، لقد تركوا التجار يبتزون المستهلك المسكين.

في مأرب أسعار الكهرباء مرتفعة أيضًا، وكل تجارها يشتكون من مضاعفة الأسعار على الكهرباء دون مسوقات، لكنها تظل مجانية للحارات والبيوت، هذه حقيقة، وحقيقة أخرى يجب أن يعرفها الجميع; الحياة في المناطق عالية الحرارة دون كهرباء أو كهرباء بديلة معاناة وجريمة تمنع الحياة عن الاستمرار، تصبح التفاصيل فيها أشكالًا بلا معنى، بلا رغبة، بلا حياة من أساسها، لا قيمة للأفكار والأمور الكمالية فيها دون هواء بارد. الكهرباء شريان حياة وضرورة بقاء حتمية ووجودية، وانعدامها موت نهائي.

الكهرباء أوكسجين للناس، خبز يعتق الجوعى من الموت، شريان دم يصل الرأس بالقلب، وانقطاعها جريمة حرب، جريمة لا تسقط مع الأيام، جريمة تقذف في الجحيم من تسببوا في خرابها أو من يمنعونها عن الناس.

بمعنى آخر ظهرت في مأرب نماذج مبالغ فيها عن اقتصاد الحرب، فانهيار الدولة والظروف غير الاعتيادية للحرب أتاح لأشخاص في أماكن سياسية وعسكرية أن يكسبوا أرباحًا مادية بطرق لم تكن ممكنة في وقت السلم، بمعنى أن الفساد يتفشى بشكل كبير في المدينة واستغلال ظرف الحرب أيضًا بنفس القدر في بقية المدن التابعة لحكومة هادي.. 

مأرب.. والنازحون

يوجد في مأرب 138 مخيمًا للنازحين منها خمسة تم إلغاؤها وثلاثة تم إجلاؤها من مناطق الصراع المسلح، هذه المخيمات موزعة على أطراف مأرب وصحرائها ومناطقها المحاددة للمدينة، بالإضافة لحارات الجفينة وامتداداتها المترامية بعيدًا، المخيم قد يكون حارة، أو عدة منازل بمنطقة معينة، ولكنها لا تحظى بالخدمات الإنسانية الضرورية في حدها الأدنى.

تلك الأعداد من النازحين جلبت للمدينة عشرات المنظمات الدولية والموظفين الإنسانيين الأجانب والحاليين، الموظفين الأجانب بالإضافة إلى مهامهم الإنسانية يقومون بالتواصل مع الوكالات الإخبارية والقنوات الغربية لتزويدهم بالمعلومات المستجدة، وهذا الأمر هو مصدر بعض الأخبار المغايرة للواقع، الأخبار التي تثير حفيظة ناشطي المدينة وصحة ما يروجون له عن سير خط المعارك والمواجهات.

 لهذا لا تستغربوا من رويترز أو الوكالة الفرنسية حينما تنشر أخبارًا تتعارض مع ما يريده ناشطو المدينة، لأن مصدرهم فعليًا يعيش داخل المدينة وقريب من السلطة ومتعاقدون مع عدة موظفين محليين يزودونهم بالمعلومات والمستجدات بغض النظر عن طبيعة المعلومات.

هؤلاء العاملون الأجانب فروا من المدينة إلى فنادق سيئون مرتين وعادوا بعدها خلال شهرين ماضيين وبالطبع خوفًا من اقتراب الحرب باتجاه المدينة، هذه مؤشرات قناعتهم الخفية بأن المدينة ستسقط في يد الحوثي المسلحة وهو ما ينسفه الواقع في كل مرة.. 

في مخيمات النزوح بمأرب يقضي الناس حياتهم باحثين عن مجرد بقاء، ولسانهم في صمته يقول: وطن لله يا محسنين، هذه حقيقة ما يجري، تلك الصحراء اليمنية الحارقة تحوي بين جنباتها وترابها عشرات الآلاف من النازحين المشردين، ومئات الخيام وعشرات المخيمات والعمل الإنساني المتزايد يومًا بعد آخر، وبجوارهم في أماكن قريبة يرتص المشردون القادمون من إفريقيا، يرتصون بخيباتهم جوار شقائهم ويعيشون منتظرين شيئًا من الله يحدث ليّخلصهم أيضًا من بلائهم، كأن التشرد والخذلان وطن واحد للمحرومين جميعًا. 

أخيرًا، ومع تزايد وتيرة الحرب، تبقى المأساة الإنسانية هي الجزء المغيب في تداولات أخبار المعارك بالمدينة، إذ يبقى مصير مئات الآلاف من النازحين الذين يسكنون أطراف مأرب، والمنتشرين في مخيمات نزوحها، كارثة حقيقية نتيجة اقتراب المعارك باتجاههم. يتزامن ذلك، مع غياب الموقف الدولي المسؤول لإيقاف هذه الكارثة. 

* من صفحة الكاتب على الفيسبوك