الحوثية: لا تؤمن بالوطنية وتعتنق “الجهاد” لتحقيق “الحاكمية” - دراسة

تقارير - Saturday 30 May 2020 الساعة 04:07 pm
صنعاء، نيوزيمن:

في حلقته الثانية يواصل أحمد الطرس العرامي وهو كاتب وباحث في البنى والتحولات الاجتماعية والقبلية في اليمن، دراسته عن “مبدأ الجهاد لدى الحوثيين.. قراءة في المعتقد والتمثلات (دراسة)”..

لقراءة الحلقة الأولى: 

>>محاولات “الهاشمية” استعادة دولة الإمامة من دولة سبتمبر62

بين الحوثيين والتنظيمات السلفية الجهادية

تنتمي جماعة الحوثي إلى ما تسمى ظاهرة “المسلحين الفاعلين من غير الدول”، وهي ظاهرة تكاد تكتسح الشرق الأوسط بشكل عام، يأتي في طليعتها كل من تنظيمي القاعدة وداعش، والحشد الشعبي، وحزب الله[1]، وغيرها، بيد أن الجماعة، تنتمي إلى ما يمكن تسميته التشكيلات ذات الهوية المركبة، أي التي تمزج في طبيعتها بين العرق والقبيلة والتنظيم الجهادي، والتشكيل العسكري، ومع ذلك فإن المبدأ الجهادي، يعد مرتكزاً أساسياً لدى الجماعة، لا تكاد تختلف فيه سوى في التفاصيل، كما أسلفنا، أو في الآليات، عوضاً عن مرتكزاتها الخطابية وخلفياتها السياسية وموجهات الخطاب والممارسة لا تكاد تختلف كثيراً عن الجماعات الجهادية.

تقوم هوية الحوثي على افتراض “عدو”، كما يتضح من خلال الصرخة، التي لا تعدو كونها وسيلة الحوثي «الاستفزازية» في التعبير عن وجوده من خلال أعداء هم أبعد ما يكونون عنه وعن سياقه الجغرافي والتاريخي، هذه الهوية تكاد تقترب من هوية القاعدة التي تقوم على استعداء “الآخر” غير المسلم، بينما يصبح ذلك طريقاً مؤدياً صوب معاداتها للدولة (الإسلامية بطبيعة الحال) تحت غطاء العمالة، والموالاة، وهو ذات الخطاب الذي عاش عليه الإخوان المسلمون زمناً طويلاً[2]، بيد أن معاداة أمريكا، وعلى خلفية القضية الفلسطينية، تعد، وبشكل عام، أيديولوجيا تحكم تنظيمات الإسلام السياسي، لكن الطريف هو أن ثمة منافسةً واضحةً بين كل من التنظيمات السنية (داعش، والقاعدة وغيرهما)، والتنظيمات الشيعية (الحوثيين وحزب الله مثلاً)، حول هذه النقطة أساساً، والتي تتكثف في محاربة “المشركين”، “الكفار”، إذ إنها تمضي من محاربة أمريكا، وإسرائيل، لترتد على هيئة حرب تكفيرية وعنف بين الطرفين الإسلاميين، أو بين أحدهما وبين الدولة.

وتطلق مختلف التشكيلات الشيعية على المذاهب السنية صفة “التكفيريين”، في إشارة إلى “فتوى التكفير” التي تعد واحداً من أهم مرتكزات الفكر الديني السني، ومع ذلك فإن نهج “التكفير” ليس خاصاً بالجماعات السنية، فالجماعات الشيعية معروفة بالتكفير، والشواهد على ذلك كثيرة ومعروفة، لكن الأهم لدينا هنا هو أن مصطلح “التكفيريين” يحمل في جوهره معنى من معاني تكفير الآخر، ذلك أن من يوصف به يعتبر خارجاً عن الطريق الحق، من وجهة نظر دينية، ولذلك توجب قتاله، وبتعبير آخر، فإنه وكما أن الجماعات السنية تصف الشيعة بالروافض، وتجوز قتلهم ومحاربتهم بكونهم خارجين عن الدين، فإن وصف الجماعات الشيعية، للجماعات السنية بـ”التكفيرية”، معناه، ضمنياً، الحكم عليها بكونها خارجة الدين، ما يترتب على ذلك الدعوة إلى وجوب قتالهم.

ويحيلنا هذا إلى فكرة جوهرية ومركزية مفادها أن خطاب الجهاد لدى جماعة الحوثي ينتمي إلى مجمل الخطاب الإسلامي العام حول هذا المعتقد، وخطاب جماعات الإسلام السياسي بشكل خاص، لكنه يختلف معها جميعاً (باعتبار البعد الشيعي مرجعية أساسية للجماعة)، في الشكل أو الآليات، فمن الثابت أن الخطاب الديني لدى مختلف الجماعات الإسلامية يتفق في الأسس، ويختلف في الآليات، والتوقيت، وطبيعة الممارسة أو شكلها، وينطبق على هذه الحالة تماماً ما يطرحه المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، في كتابه “نقد الخطاب الديني”، حول كون الجماعات الإسلامية على اختلافها وتباينها، تلتقي في معظم المبادئ الأساسية، وأن ما يظهر من فروق بينها فإنما هو فرق في الدرجة لا في النوع، ويشمل هذا مبادئ مثل الحاكمية، والتكفير، والجهاد (تغيير المنكر باليد).. وغيرها[3].

وبمعنى من المعاني، فإن جماعة الحوثي، وجماعات مثل داعش والقاعدة، وغيرها من الجماعات الدينية الجهادية المسلحة، تقاتل من أجل مبدأ واحد يتمثل في مبدأ “الحاكمية”، على ما بين هذه الجماعات من اختلاف حول مفهوم وطبيعة وتجسيد هذا المبدأ، إلا أنها ومثل مختلف الجماعات الدينية الإسلامية المعاصرة، تتفق حول مبدأ الحاكمية بمفهومه العام، وحول مبدأ تغيير المنكر باليد، بل إنها تذهب في هذا التلاقي إلى مشتركات أخرى تقوم على “تكفير المجتمع والحاكم”، بتعبير نصر حامد أبو زيد، ويشمل ذلك أساسيات الحكم والقانون، ويمتد إلى قمع الفنون، وتحريمها ممارسة الفنون، كالغناء والموسيقى، وتقييد الحريات الشخصية، وكل ما يتعلق بحرية المرأة. ومن هذه المنطلقات تقوم هذه الجماعات أو تسعى إلى فرض التغيير على المجتمع، مع اختلافها في الأسلوب أو التوقيت أو الآليات حول كل ذلك.

إن خطاب الحوثيين لا يكاد يفترق عن الخطاب الشيعي الذي بدأ مع ثورة الخميني في إيران، لكنه في الأساس يكاد يلتقي مع الخطاب الديني العام الذي تشكل في العصر الحديث لدى الإخوان المسلمين، وعلى يد سيد قطب مثلاً، وبالمجمل لدى تيارات “الإسلام السياسي”. إن موجهات الخطاب لدى جماعة الحوثي، ومن خلال محاضرات حسين بدر الدين الحوثي، تكاد تذكرنا بخطاب تيارات “الإسلام السياسي”، والذي ما لبث أن أصبح شعبياً، وقد غذته العديد من القنوات السياسية والفكرية، ويتمثل في القطيعة مع ما يعرف بـ”الأخلاقيات العالمية المشتركة” التي تجلت في “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان” أو في ظهور مؤسسات عالمية (مثل الأمم المتحدة، ومجلس الأمن…) والتي انضمت إليها الدول العربية والإسلامية، وتقبلتها الأنظمة، مع بقاء الإحساس بالظلم لدى المسلمين من كون هذه المؤسسات تعمل بازدواجية في المعايير، خصوصاً في ما يتعلق بقضية فلسطين[4]. وهو أحد المرتكزات الخطابية لدى جماعة الحوثي، بل إحدى الأيقونات التي تستدعيها الجماعة في خطب ود الجماهير، مثلها في ذلك مثل الخطاب الإيراني، وهو بطبيعة الحال إحدى المرجعيات المركزية للجماعة.

وترتكز الرؤية الحوثية في الخطاب والممارسة، على فكرة كون أي عمل سياسي ينبغي أن يكون خارج مظلة أو أطر مبادئ مثل القومية أو الوطنية، بل في إطار الجهاد الإسلامي كهوية كبرى، كما يؤكد ذلك حسين بدر الدين الحوثي، في إحدى محاضراته[5]، ولكنه يفترق في ذلك مع الجماعات الإسلامية الجهادية الأخرى، حول مفهوم الجهاد، فمن الملاحظ أنه، ومنذ بدايات الدعوة التي تبناها، كان زعيم الجماعة يضع نفسه وجماعته كبديل لـ”القاعدة”، كما تفيد بذلك الكثير من محاضراته، التي بدا فيها وهو يضع نموذجاً جديداً للجهاد ضد الغرب وأمريكا وإسرائيل، يختلف عن المنهج الذي اتخذته “القاعدة” التي يرى فيها صنيعة غربيةً بغرض السيطرة على بلاد المسلمين، ومبرراً في حربها عليها، معلياً من شأن نموذج حزب الله في محاربة المشركين/ إسرائيل، مؤكداً أن مبدأ الجهاد لدى الجماعات الإسلامية الأخرى -من غير حزب الله- يقوم على خطأ، وأن الجهاد الصحيح هو الجهاد القرآني، وهو مصطلح فضفاض، لكنه مركزي في فكر الرجل الذي بنى دعوته على هذا المفهوم، محاولاً من خلاله خلق تفسير جديد للقرآن -هو أقرب إلى التفسير الشعبي لهذا النص المقدس- يقوم على استنطاق آياته بشكل سطحي، وإسقاطه على الواقع السياسي، لكنه يستند عليه في المبادئ الدينية الأساسية، وعلى رأسها الجهاد، فينطلق في الدعوة إليه بدءاً من التشريع الذي يأمر بمحاربة الكفار، وكون الجهاد في سبيل الله يكون بالقتال ضد الكفار والمشركين (اليهود والنصارى).

ويحضر بقوة البعد الشيعي، والرؤية السياسية الإيرانية، في هذا التوجه العام، فحسين بدر الدين الحوثي الذي سافر إلى طهران، وأقام فيها عدة سنوات، وتأثر بالخميني والنموذج الإيراني، واعتقد بإمكانية إحياء الخلافة/ الإمامة الزيدية في اليمن، عاد من هناك بشعار الجماعة الأساسي: “الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود، النصر للإسلام”، وهو تناص واضح مع شعار الخميني: “الموت لأمريكا”، إبان الثورة الإيرانية، عام 1978م، أو بالأصح امتداد له، وهو شعار يمجد الموت، ويتخذ من العداوة ضد الغرب واليهود، مبدأً أساسياً له، ولكن، ولأن الجماعة لا تستطيع أن تخوض حرباً مباشرةً مع أمريكا وإسرائيل، أو بالأصح ليست، ولو مثل حزب الله، على تماس مباشر مع إسرائيل، فقد تركز خطابها الديني/ السياسي على قاعدة “ذهبية” في الفكر الإسلامي، وهي محاربة الموالين للمشركين. هكذا، وبخلاف تنظيم القاعدة الذي نشط بشكل أساسي في تهديد مصالح البلدان الغربية، بدأ الحوثي حركته ضد الحكومة اليمنية، ابتداءً من العام 2004م، وانطلاقاً من مبدأ ما يسمى “الموالاة والمعاداة”[6]، الذي يقوم على فكرة أن من يوالي المشركين/ الغرب، فهو منهم؛ ولذلك توجب قتاله، ومن أجل ذلك نجد أن فكرة كون القاعدة وداعش “صنيعة غربية”، تحتل مكانة مهمة في الخطاب الحوثي.

ومع أن مبدأ “الموالاة والمعاداة” أيضاً يعمل في بعض الأحيان لدى التنظيمات الإسلامية الجهادية الأخرى، مثل القاعدة وداعش، فإن جماعة الحوثي تفضل عادةً القتال في مواجهة مباشرة، وبتعبير آخر، فإذا كانت كل من القاعدة وداعش، تعتمدان على آليات في ممارسة العنف مثل التفجيرات والاغتيالات وغير ذلك، فإن ما يميز جماعة الحوثي هو أنها تفضل القتال في سياق حربي يعتمد على المواجهة، وهو المبدأ الذي يستند إليه الجهاد لدى الشيعة بشكل عام أو في الغالب، والذي يعد أحد مرتكزاته في ما يسمى المبارزة، وهو مبدأ مشروع عند فقهاء الشيعة، وقد يأتي على نحوين: مستحب ومباح، فأما المستحب فهو أن يدعو المشرك إلى البِراز، فيستجيب المسلم، وأما المباح فهو الخروج إلى “المشرك” ابتداءً، فيدعوه إلى البِراز، ويذكر أنه واجب إذا ألزمه الإمام[7]، ولعل هذا يمكننا من فهم واحدة من آليات الحوثيين في معظم معاركهم، والقائمة على استفزاز كل خصومهم، واستدراجهم إلى الحرب. كما يمكننا من فهم الذريعة الذهبية التي كان الحوثيون يروجون لها باعتبارهم يحاربون “دفاعاً عن النفس”[8].

ومع ذلك، يقاتل الحوثيون أساساً من أجل هدف واحد، وهو إعادة الحكم الإلهي أو الحق الإلهي، والمتمثل في الحكم لآل البيت، وهم يرون أنه انتزع منهم في القرن الأول الهجري، وهو الهدف الذي قاتل من أجله الحسين بن علي بن أبي طالب، وهم يرون في ثورته منهجاً يسيرون عليه. إن التضحية التي قدمها الحسين، تعد المنهج الأساسي في الفكر الشيعي بشكل عام، ولهذا يجسد الحسين رمزاً بطولياً، أو رمزاً من رموز التضحية والثورة التي يجب السير على منهجها، بخلاف منهج الحسن، شقيقه الذي التزم مسار السلام، وترفع عن المطالبة بالحق الإلهي المزعوم، ومع ذلك فإن الحوثيين، ومن قبلهم منهج الخميني في إيران، يرون في مسلك الحسن، مسلكاً ممكناً، إذ يمكن المضي في نهج الحسن الذي فضل السلام، وهو خط يفسر لنا اتباع مسار المفاوضات لدى جماعة الحوثيين، والجمهورية الإسلامية[9]، بيد أن من الطريف في هذا السياق أن ثمة قناعة لدى الزيدية في اليمن، تتجسد في كون الحسن رجلاً أضاع الملك باتباعه نهج السلام، ولهذا يغيب تمجيده في الطقوس والأدبيات، مقارنة بالحسين، وتتجلى تراتبية شبه حادة داخل المكون الهاشمي، يتموضع فيها “الحسينيون” في مرتبة أسمى من “الحسنيين”، لأن الحسين قاتل وجاهد وضحى بنفسه من أجل استرداد الحق الإلهي في الحكم، بعكس الحسن[10]. بيد أن هذا كله قد يشير إلى تقارب بين الخمينية والحوثية، فبينما يمكن القول إن الخمينية قد اقتربت من الزيدية في مذهبها الشيعي، حين أعلت من الجهاد كما اختطه الإمام زيد، فإن الحوثيين، الذين يتكئون على المذهب الزيدي في اليمن، قد اقتربوا أيضاً من النهج الإيراني، مع الاحتفاظ بالمبدأ الزيدي في الخروج والجهاد[11].

في الحلقة الثالثة والأخيرة:

كيف أعادت الحوثية تربية 120 ألف مقاتل من صغار السن والأقل تعليماً بين اليمنيين

المدونة اليمنية موقع “تحليلي مستقل، يُعنى برصد التطورات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في اليمن، يرأس تحريرها ريدان المقدم.

موقع المدونة