فيصل الصوفي

فيصل الصوفي

إلحاد بالإكراه

Wednesday 20 July 2022 الساعة 09:13 am

الزنديق، قائل الزندقة.. والزندقة –ببساطة- هي محاكاة المسلمين للمقولات الأساسية في الديانات غير السماوية التي شاعت في بلاد فارس قبل الإسلام، مثل الزرادشتية، الثنوية، أوالمثنوية، والمانوية، كالقول بوجود إلهين يدبران شئون الكون، هما إله النور وإله الظلام، إله الخير وإله الشر، والقول إن الكون قديم، وجد قبل كل الموجودات، وأن لا نهاية زمنية لهذا الكون، فمن قال بقولهم هو زنديق، أي ملحد.. وأي قول أو رأي يتعارض مع معتقدات فقهاء المسلمين يعتبر زندقة، ولذلك اتسعت الدائرة التي أدخل فيها مثقفون مسلمون بجريرة الزندقة أو الإلحاد.

أبو العلا المعري اتهم بالإلحاد، وعده ابن الجوزي ثاني الزناديق الثلاثة: ابن الرواندي، وأبو حيان التوحيدي، وقال إن هذا الأخير هو أشدهم على الإسلام، لأن ابن الرواندي والمعري يصرحان بالزندقة، بينما التوحيدي مجمجم (لم يبين، أو لم يصرح).

وحسب ابن قتيبة كان في الكوفة زناديق ثلاثة، يقال لهم الحماديون: وهم الزعيم في فرقة الخوارج حماد عجرد، والوضاع حماد الراوية الذي كان يضع الأحاديث وينسبها إلى النبي محمد، وعالم النحو العربي حماد بن الزبرقان. 

وفي علم الجاحظ، الزنادقة ثلاثة: ابن المقفع، ومطيع بن إياس، ويحيى بن زياد، فقال خصومه إن الجاحظ على فضله وبراعته وفصاحته، هو رابعهم لكنه نسي نفسه، وعلى الرغم من أنه موسوعة علمية رصينة متدينة، اتهم بالزندقة بسبب انتمائه لفرقة المعتزلة، وكان له آراؤه الخاصة التي ميزته عن مدرسة المعتزلة الأولى، فتبعه قوم كثير أطلق عليهم تيار الجاحظية. والجاحظ من القائلين بالصرفة، أي أن القرآن معجز بمعانيه، بالأخبار وقصص الأولين التي لم يعرفها العرب من قبل، وليس معجزاً لجهة اللفظ، أي البلاغة وجودة السبك والفصاحة والبيان، فهذه كان بمقدور العرب الإتيان بمثلها، تماماً كما هو القرآن، ولكن الله صرفهم عن ذلك بعجز خلقه فيهم.

وللمعري كلام منثور ومنظوم يدفع عنه تهمة الزندقة أو الإلحاد، يقول: الله لا ريب فيه، وهو محتجب باد.. وأكثر تآليفه تتضمن تعظيم الله، والحث على الزهد، والثقة بالله (ويرزقني الله الذي قام حكمه، بأرزاقنا في أرضه متكفلا)، ولأن المعري فيلسوف أيضا كان له آراء ملتبسة في قضايا ملتبسة أيضا، كان يقول إن أعراض نساء الروم ما أبيحت للعرب إلا بأحكام النبوات، وأن الناس كانوا أخوة متألفين فجاء الأنبياء بشرائع تفرق بينهم، وتزرع فيهم الأحقاد وأفانين العداوات.. وفي بيت من الشعر يقول: حياة ثم موت ثم بعث، حديث خرافة يا أم عمرو (نسب البيت أيضا إلى الحسن بن هاني، أبو نواس)، فعد من منكري البعث.

لكن المعري لم يطارد، ولم يطارد غيره من المتهمين بالزندقة أو الإلحاد، ليس لأنه رهين المحبسين، بل لأنه في نظر الحاكم صاحب رأي لم يحول إلحاده إلى حركة، أما في الحالات التي شعر فيه الحاكم بخطر يهدد دولته العائلية فها هنا يقيم القيامة.. لقد كانت الملاحقة تتم لدوافع سياسية، بل إن الفقهاء الذين وضعوا الشعراء والفلاسفة في دائرة الزندقة أو الإلحاد، إنما فعلوا ذلك تقربا للحاكم، مع إقرارهم أنهم براء من الإلحاد.. على أن الأصل في الإنسان أنه يولد دون دين، لكن يمجسه أو ينصره أو يؤسلمه أبواه، فإن كفر بعد ذلك يكون قد صار على دين الكفر، والكفر دين حسب التعبير القرآني: قل يا أيها الكافرون... لكم دينكم ولي دين.

كان كل معارض سياسي يدمغ بالزندقة، الإلحاد، الكفر، ويكره على الاعتراف بذلك، مطلوب منه الإدلاء بشهادة ضد نفسه، فالحاكم المهدي في دولة بني العباس، سليل البيت الهاشمي، لم يقدر -كما يبدو- على بلع ما يصله من أخبار  الشاعر الفذ بشار بن برد المتمرد على الدنيا الساخط على المجتمع، العبث، فاتهمه بالزندقة، ولما أنكر التهمة، أمر بضربه سبعين سوطا ليقر بانه زنديق فلم يقر، ولضعفه مات قبل أن يتم الجلاد السبعين ضربة.. وخلف من شعره المحرق قوله: 

إبليس أكرم من أبيكم آدم

               فتبينوا يا معشر الفجار

 إبليس من نار وآدم طينة

           والطين لا يسمو سمو النار

  وأمر الحاكم نفسه بحبس الشاعر صالح بن عبد القدوس بتهمة الزندقة، وهو منكر للتهمة، فطالت فترة بقائه في السجن، لأن الحاكم نساه، وهو القائل، (وليس عبد الله بن معاوية):

 خرجنا من الدنيا وعن وصل أهلها

         فلسنا من الأحياء ولسنا من الموتى

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة

             عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا!

وثمة ضحايا كثر لهذه التهمة التي أُكره مثقفون على الاعتراف بها، والأسباب دائماً سياسية، أما من لم يخض في بحر السياسة، ولم يعارض الحكام يُترك لإلحاده، لو كان ملحداً حقاً.. حدث ذلك التجني في كل الأعصار والأمصار، عبر مختلف المراحل التاريخية، وصولاً إلى هذا العصر، ومثال لذلك تهمة  ألصقتها جماعة الإخوان بأشهر وأكبر عالم يمني بعلم الاجتماع.. عند منتصف العقد السادس للقرن العشرين اتهم بالإلحاد كي يبعد عن الطلاب الذي كان يلقي عليهم محاضرات في جامعة صنعاء.. كان خصومه السياسيون يشعرون أنه داعية اشتراكية مؤثر، فعهدت الجماعة إلى ثلاثة من رجالها مهمة تدبير حيلة لفصله من الجامعة، ومن الحياة الدنيا أيضاً.. ألصقوا به تهمة الإلحاد التي ظل ينكرها  أمام المحققين، أمام وزير العدل، أمام النائب العام محمد البدري، وحتى النهاية، لكنهم تمكنوا من استخراج حكم قضائي يقضي باستتابته ثلاثة أيام، وإلا تجز رقبته وتصادر تآليفه.. ولما وجد الرجل النحيل نفسه وحيداً في معركة مع جماعة ضارية، فر مستتراً إلى عدن، ومنها إلى خارج اليمن.. بعد الوحدة 1990 صارت الاشتراكية والإخوانية والبعثية والناصرية مظهراً من مظاهر التعددية السياسية وحرية القول، وحين عاد إلا البلاد أغفل الإخوان الحكم القضائي الذي لا يسقط بالتقادم لو كان متوافقاً مع الدستور وقوانين الإجراءات الجزائية والعقوبات وقانون السلطة القضائية والقانون المدني، لكن الحكم كان مخالفاً لهذه كلها، ولو لم يفر عالم الاجتماع من اليمن باكراً لجزوا رقبته، فتأملوا في هذا الإجرام.. واليوم تُكفِّر الجماعة الحوثية مثقفين من جميع التيارات، ذكوراً وإناثاً، وتكبر وتذبح أو تسجن، وبتجربتها العنصرية تزيد من عدد الملحدين في اليمن، كما زاد عدد الملحدين العرب بعد تجربة الربيع المخيبة التي تصدرها الإخوان.