د. فاروق ثابت

د. فاروق ثابت

ليته لم يغادر اليمن .. عبده عايض في رحلة المجهول !

Thursday 04 July 2019 الساعة 04:03 pm

بينما كنت شاردا في لحظة ذهول مع كوب الشاي الذي اخرج لشربه كعادتي قبيل المغرب في احدى المقاهي المجاوره للسكن في شارع سيردانج بيردانا واسافر من خلاله الى عوالم اخرى بعيده عن ضغوط الغربة و الدراسة وهموم الحياة ...

وفي تلك اللحظة وانا سابح في التفكير والتهاويل والضغوطات التي لم تلق لها من مخرج، غير آبه بكل ما يمر حولي، ولم يعد لتلك السيقان الرشيقة البيضاء اللامعة والنهود الاسيوية التي تكاد ان تخرج لتهدي التحية للعابرين والجالسين معا اية جاذبية بالنسبة لي وانا القادم من بلاد الفقر والدين والحرب و القبيلة ...

فجأة تقف سيارة بالقرب من المقهى سائقها يبدو طالبا يمنيا ...

نزل السائق واقترب من الجالسين في المطعم وهو يحملق في وجوههم وبيده حقيبة سفر:

"المعذرة ، بس لقيت هذا في المطار وانا اودع أحد الأصدقاء وقلت افعل فيه خير لاننا شفته ضايع " .. واومئ له بالنزول من السيارة .

فنزل رجل مسن اسمر تملئ التجاعيد وجهه نحيل القامه يبدو انه منقطع عن النوم لاسبوع متواصل ..

كانت آثار اليمني القادم من بلاد الحرب واضحة فيه ، المرض والاعياء والبؤس والضعف وسوء التغذية ...

اقترب الرجل والجميع مصاب مذهول ، أنَّى لمسن مثله ان يرمي بنفسه في رحلة الى المجهول ؟! ... فيما هو من شدة تعبه كان يتكلم بالكاد! ...

احتلق جماعة من اليمنيين والعرب للنظر في الأمر ومحاولة تقديم اي مساعدة.

فتقدم صاحب المقهى منهيا حيرتنا الجميع واخذ حقيبة المسن وسلمها إلى أحد العمال طالبا منه أخذ الرجل الى شقة العمال للنوم مع اخذ وجبه طعام له ..

لم تمر سوى يومان حتى بات المسن يعمل مباشرا في ذات المقهى، لكن لم يستمر ذلك طويلا، فقد قام صاحب المقهى اليمني بتحويل الحاج عبده عائض للعمل كمساعد طباخ تقديرا لعمره المتقدم، بدلا عن كثرة التحرك لتقديم الخدمات للزبائن وهو الرجل المتعب المسن ..

فتحسنت معنوية عبده عايض وصحته رويدا رويدا، لكن ثمة ضروف حصلت في مكان العمل اظطرته للمغادرة والعمل في احدى المطاعم العربية في بوكيت بن تانج - وسط كوالالمبور - غير أن المطعم كان في ملك رجل هندي لم يحترم كبر سن عائض فسامه سوء العذاب حد قوله ..

مرض عائض بشدة و طلب اجازة من المطعم، وبينما كان يقضي اجازته المرضيه، أشتد مرضه وزادت حالته الماديه بؤسا.. وبينما كان يشرب الشاي وظاهرة عليه اثار المرض والاعياء..

قال بصوت متعب وشاحب بعد كحة شديدة كادت ان تقطع نفسه:

" انا تعبان، ماشتيش عمل، ولا عاد اشتي ماليزيا، ولا عاد شرجع اشتغل عند الهندي، ذفر بن ذفر، شرجع أموت لي بين عيالي .. اشتي ارجع اليمن حتى الان ".

- فكرة حلوه يا عم عبدو، اذا رجعت بيكون افضل ماعادكش حق جعجعة أكثر؟!

فأجاب والدمع تنهمر من عينيه بصوره تقطع القلب :

"ما معيش حق تذكرة! .. اشتغلك شهور وجمعك فلوس ورسلكو به لابني فتح فرن، لكن فلّس الفرن وخرج الابن مديون " ....

فاستمر عبده عايض يعيش تلك الظروف المادية والمرضية المزرية الى ان تكفل له فاعل خير بتذكرة العودة الى اليمن..

فغادر عايض غربته من ماليزيا الى اليمن منهكا بائسا مريضا يتمنى انه لم يأت..

غادر بظروف أشد ضراوه مما كان حين قدومه، ليأخذه أهله مباشره الى المشافي والمراكز الصحية لعلاجه من السعال الكارثي و حساسية الجهاز التنفسي الذي تمكن منه بضراوه بفعل ادخنة المطابخ..

وهكذا يعود اليمني من بلد الاغتراب ... وياليته لم يغادر اليمن ..

لكن جحيم السلالة و البؤس والحرب في الداخل دفع الناس لرمي أنفسهم الى المجهول دون مبالاه او خوف مما سيحصل لهم .